خاص بشبكة طريق الحرير الصينى الإخبارية/
الأكاديمي مروان سوداح*
• مؤسس ورئيس الإتحاد الدولي للصُحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء وحُلفاء الصين.
وردتني عدة رسائل من قراء جريدة (الدستور) الأردنية الشهيرة، وملاحظات أخرى من أصدقاء يُقيمون في بعض الدول العربية، تتناول مقالتي التي سبق ونشرها في (الدستور) اليومية، وفي شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية في الجزائر، وتحدثت فيها بالشرح والعرض عن أهمية إذاعة الصين الدولية، المشهورة بالأحرف الثلاثة: CRI، وضرورة استمرار قسمها العربي وتطوره وتألقه وتوسعه في الجغرافيا العربية، وفي الشتات العربي الكبير خارج الوطن العربي الواسع في آسيا وأفريقيا.
منذ طفولتي كنت استمع بشغف لبرامج القسم العربي لهذه الإذاعة، وتطور الأمر بي في بداية شبابي إلى مراسلتها بصورة ثابتة، من خلال رسائلي البريدية التي كانت بالنسبة إلي آنذاك مُكلفة مالياً. وبرغم ذلك، شاركت في مسابقاتها – المُستمرة للآن – وطرحت على مسؤوليها الأسئلة تلو الاسئلة حول الصين في مجالات متعددة، رغبةً مني في سرعة فهم الصين والصينيين، والنظام السياسي والاجتماعي – الإقتصادي الصيني الذي بدأ أنذاك إقلاعه السريع المُبهر على أرض جمهورية الصين الشعبية، واجتذب إليه إنظار العالم واهتمام شعوبه ومسؤوليه وقواه السياسية والاقتصادية والمتخصصين بالقضايا الإنسانية.
والمفارقة العجيبة في هذا الاستماع هو الجانب التقني. ففي “غابر الأزمان المطوية والتي ذهبت إلى غير رجعة – وتستمر هذه المفارقة للآن أيضاً – أنني أستمر بممارسة هواية الاستماع للإذاعة الصينية (بالعربية وأحياناً باللغة الصينية أيضاً برغم عدم إلمامي بها)، من خلال جهاز راديو قديم وكبير الحجم، إنجليزي الصُنع، يعمل بِ “لمبات” لم تتغير ولم تتبدل منذ ذلك التاريخ الذي يُقدّر “على الأقل” بأكثر من 51 سنة!؛ ومن خلال جهاز راديو آخر، ألماني الصنع، مُجهّز بهوائي ومُعدّات لازمة لتيسير الاستماع، كنت قد تسلمته هدية من مندوب إذاعة “دويتشه فيلله” الألمانية، خلال زيارته إلى الأردن، في تسعينيات القرن المنصرم، كما أذكر إن لم تخني ذاكرة الكهولة..
القسم العربي لإذاعة الصين الدولية هو السفير الحامل لرسالة الإذاعة والدولة الصينية إلى العالم، بأجمل الصور وبأحلى التعبيرات، مرفقة بالحقائق والوقائع عن دولة كبيرة وصديقة وحليفة ومهمة على صعيد الكون، وفي جانب من هذه الأهمية، أنها لسان ناطق بعربية صحيحة، كان ويستمر بالوقوف المبدئي في موقع المُدَافِع عن الحقوق العربية في فلسطين وغيرها، ولأجل التطور العربي المستقل عن هيمنة القوى المتربولية، وهذه في جوهرها تبادلية سياسية وإنسانية للعالمين العربي والصيني نفتخر بها، إذ يعترف العالم العربي بصينية تايوان وهونغ كونغ وماكاو وصبغتها الحمراء، وتعترف الصين بعروبة فلسطين واستقلالية وسيادة دول العالم العربي على ترابه ومائه من المحيط إلى الخليج..
في ذكرياتي أنني كنت أتلقى من بكين مطبوعات الإذاعة والكتب الصينية الناطقة بالعربية عن الصين في مختلف المجالات، وأجوبة على أسئلتي وتساؤلاتي عن الصين، ويتم الإجابة عليها، سريعاً، برسائل مطبوعة على الآلة الكاتبة، وكانت هذه بحد ذاتها وثائق ثمينة أُطلع عليها زملائي في المدرسة وخارجها، وأحياناً أعرضها أيضاً على بعض الاساتذة / المعلمين التقدميين من مجموعة أصدقائي من الشباب وكبار السن، الذيم كانوا يتفقون معي سياسياً وفكرياً، ومن ضمنهم معلمو اللغة العربية؛ والتاريخ و “الاجتماعيات”؛ واللغة الانجليزية؛ وغيرهم.
في ذلك الوقت لم تُقدم إلي دعوة رسمية لزيارة جمهورية الصين الشعبية، فقد كان السبب وجيهاً، وهو أن الأردن والصين كانا قد أقاما علاقاتهما الدبلوماسية في وقت متأخر، في 7 أبريل / نيسان 1977؛ وفي عام 1978 غادرت أنا الأردن نحو موسكو لدراسة الصحافة في جامعتها الحكومية (لومونوسوف)؛ وبعدها غادرت العاصمة السوفييتية إلى مدينة لينينيغراد الشمالية، لاستكمال هذه الدراسة (أُعيد تسمية هذه المدينة بِ “سانت بطرسبورغ”، وذلك بعد انقلاب الصهاينة على روسيا بفكرة البيريسترويكا الانقلابية الرجعية والغربية التأليف، وغورباتشيفية التطبيق).
علاقات الصين بالدول العربية وجدت في برامج القسم العربي للإذاعة الصينية ترحيباً شاملاً بها وتركيزاً كبيراً بشأنها، ذلك أن برامج كثيرة تناولتها بالعرض ولا زالت تتناولها إلى اليوم، وتتناول تطورها اللافت للانتباه لعدة عوامل وأسباب لا مجال للتطرق الآن إليها.
في ذلك الحين، تشكّلت علامة فارقة في التاريخ العالمي، إذ تلاحَقَ الاعتراف العالمي بجمهورية الصين الشعبية كمُمثّل وحيد للبر الصيني والصينيين، برغم التاريخ الطويل الذي حَفلِ بحِراكات غربية وأمريكية طويلة لإقصاء الصين الشعبية عن الحلبتين الدبلوماسية والسياسية العالمية، ومحاصرتها وتفتيتها، لكن كل ذلك أفضى إلى العكس تماماً كما في قانون نيوتن للميكانيكا الكلاسيكية: “لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”.
وبرغم ان العلاقات ما بين جمهورية الصين الشعبية وجامعة الدول العربية قد أقيمت في العام عام 1956، أي في زمن متقدّم جداً، بعد نيف وعشر سنين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي شهدت انتصار الصين وروسيا على العسكرتاريا اليابانية والمانيا النازية وايطاليا الفاشية ومن لف لفهم سابقاً، إلا أن عدداً قليلاً من الدول العربية لم تعترف بالصين الاشتراكية قبل ذلك، بل انتظرت تلك الدول حتى سبعينيات القرن العشرين لتعترف بالصين.
وعلى مدى العقود الفارطة، شهدت العلاقات الصينية مع جامعة الدول العربية والغالبية الساحقة من الدول العربية – إن لم يكن مع كل الدول العربية – تطوراً كبيراً ومتشعّباً وثميناً للغاية، وتكثّف التواصل بين الجانبين، وقام الجانبان بالتنسيق والدعم المتبادل في الشؤون الدولية والآسيوية.
وفي النِزال الدبلوماسي الدولي، رأينا في التاريخ، كيف أن 11 دولة عربية صوّتت لصالح استعادة الصين لمقعدها في الجمعية العامة للامم المتحدة، وهذه الدول هي الجزائر، مصر، العراق، الكويت، موريتانيا، المغرب، اليمن الديمقراطية، السودان، سوريا، تونس، واليمن العربية، بالإضافة إلى ليبيا التي لم تُقم بعد، آنذاك، علاقاتها الدبلوماسية مع الصين على قرار استئناف المقعد الشرعي للصين في الجمعية العامة للامم المتحدة يوم 25 اكتوبر1971.
أما الدول العربية التي لم تُقم علاقاتها الدبلوماسية مع الصين مثل البحرين، والاردن، ولبنان وقطر، فقد امتنعت عن التصويت، وصوتت المملكة العربية السعودية ضد الصين. وهناك 7 دول عربية كانت قد اقترحت استئناف المقعد الشرعي للصين وتواصلُ تمثيله وعمله، وهي الجزائر، والعراق، وموريتانيا، واليمن الديمقراطية، والسودان، وسوريا، واليمن .
بعد الاعتراف الدبلوماسي المتبادل الصيني – الاردني ببعضهماً بعضاً، بدأت العلاقات بالتطور وإن كان ذلك ببطء شديد، إذ صار الطرفان يتلمسان طريقهما والسُبل التي يمكن من خلالها تطوير العلاقات والسير في مساراتها، سيّما وأن العلاقات الاردنية – السوفييتية كانت قد قطعت شوطاً طويلاً في مجالات عديدة منذ إقامتها في العام 1963.
أنذاك في الاردن، كان يوجد حزبان شيوعيان مواليان للحزب الشيوعي السوفييتي، لذا ناصبا الصين عداءً أيديولوجياً وسياسياً، فقد كانا يعتقدان أن الصين كان يمكن أن تؤثر على الجماهير الأردنية في حالة ممارسة بكين عملاً سياسياً نشطاً لجهة إضعاف تأثير الحزبين محلياً، في حالة قيام علاقات قوية آنذاك بين البلدين الأردن والصين الشعبية.
وآنذاك أيضاً، كانت الصورة في الأردن مشابهة لِمَا هي عليه الآن بالضبط: لم يتم للآن افتتاح رسمي للمركز الثقافي الصيني الـ“حكومي” الذي وافق الأردن عليه، وبالتالي لا يوجد “آلية داخلية” عاملة في الأردن على ترويج وقائع الصين، ونقل حقائق الدولة الصينية ويوميات الشعب الصيني للشعب الاردني؛ بل يوجد فقط (إتحاد خاص للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء وحُلفاء الصين)، الذي يرتقي عمله الجَاد بالعلاقات مع الحزب الشيوعي الصيني القائد وجمهورية الصين الشعبية الى درجة التحالف المصيري والدهري.
أذكر تماماً، وهي ذكريات تعيش فِيَّ إلأى الآن، أنه لم يكن آنذاك، في سبعيتيات القرن الماضي، أي تدريس للغة الصينية للأردنيين، ولا مدارس أو جامعات محلية تعلّم الصينية، ولا حِراك ملحوظ للدبلوماسيين الصينيين في الأوساط الأردنية؛ بل كان هنالك، والحمد لله، بيع وشراء وتجارة بين أصحاب الأموال الأردنيين مع الصين، إلا أنه لم يكن من وفود متبادلة بالإتجاهين سوى نادراً، والكثير غير ذلك مما يتوافر اليوم في علاقات البلدين والشعبين يومياً.
أذكر في تلك الأيام كذلك التي بدأت فيها علاقاتي مع الصين ومع القسم العربي لإذاعة الصين الدولية (CRI) ، بالذات في العام 1969، أو قبله ربما، أن علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين “تلمّست الاتزان” وكانت خطواتهما مدروسة بعمق، واستمرت هادئة على منوال ذلك سنوات طوال. وفي هذا المضمار، قال أحد سفراء الصين في الاردن، أن قيادتي البلدين إهتمّتا “لاحقاً” بإرساء “أُسس متينة وعلاقات صداقة بين بلدينا”، وها هما اليوم “يدفعان بهذه العلاقات إلى مستوى جديد، حيث تمر العلاقات الصينية الاردنية الآن بأفضل المراحل في التاريخ”.
في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، إذكر ليس فقط مراسلاتي مع الاذاعة الصينية والرسائل المتبادلة بيننا؛ – وكانت رسائل الإذاعة محببة لكونها “رسمية وإيديولوجية” لافتة، وقد ارسلتُ قبل سنوات عديدة ما بقي منها في أرشيفي لإحدى مديرات الإذاعة، وهي الاستاذة وانغ وي تسو، وكنت حينها أترأس منتدى للإذاعة للتعريف بها وبالصين بين أقراني الأردنيين من الشباب ومن الحزبيين في الحزب الشيوعي الاردني – الكادر اللينيني -؛ وشباب بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية الأردنية الاخرى.
وفي تلكم الومن أيضاً، لم يكن للصين في الأردن فعاليات أو فاعليات ملحوظة، وكأن الصين لم تكن ترغب في التنازع مع الإتحاد السوفييتي على الأردن، وكانت هذه سياسة حكيمة وصحيحة وواقعية. وبقيت الصين حينها على مواقفها الأكثر مبدئية وتميزاً في رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني الإسرائيلي الدخيل، وناصرت بالمال والسلاح والسياسة والدبلوماسية حقوق شعب فلسطين الجريح، وقامت بتدريب عناصر المنظمات الفلسطينية على السلاح والحرب، وأرسلت لهم سلاحاً صينياً نافعاً لمعارك “حرب العصابات.”
وقد قُدّر لي أنذاك برغم صِغر سني، أن أُدرك عُمق التقاطعات الصينية – العربية. فالحضارتان الصينية العربية من أقدم وأرقى وأعرق حضارات العالم، وقد قدّمتا مساهمات راقية وهامة للتنمية البشرية وشعوب العالم أجمع لا يمكن تجاهلها. وطِوال تاريخها، كانت الصين تعمل – وهي لا زالت تعمل – على احترام حضارات الدول الأخرى في العالم. فهي تعترف بتنوع الحضارات والثقافات، وضرورة التعاون مع الآخر والتفاهم معه، ومع العرب على وجه خاص، سيّما وأن عالمنا العربي كبير وموّحد لغوياً وحضارياً، برغم الهوّة التي وقع ويقع فيها راهناً. وقد كانت الصين ترفض تفضيل حضارة على حضارة أخرى، أو التقليل مِن قيمة حضارة من حضارات الكون، أو تاريخ وثقافة وعادات وتقاليد قومية ما في العالم، بل هي تنادي بالتعلّم من كل حضارات الأرض والتبادلية معها.
وللحديث بقية..
*متابعة ونشر: أ. عبد القادر خليل.
إذاعة متميزة ببرامجها المتنوعة واختياراتها الجميلة التي تجذب المستمع العربي لها .
شكرا للاستاذ مروان سوداح كاتب المقالة