شبكة طريق الحرير الإخبارية/
مصدر: المدن/
وارف قميحة
رئيس الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والابحاث
شينجيانغ لم تكن يومًا هامشًا جغرافيًا في تاريخ الصين، بل جسرًا حضاريًا ربط الشرق بالغرب على طريق الحرير القديم. فمنذ أن التقت القوافل التجارية في مدنها مثل كاشغر وأورومتشي وهامي، ازدهرت التجارة بالحرير والبهارات والأحجار الكريمة، وازدهر معها التبادل الثقافي والفكري، لتصبح شينجيانغ فضاءً تتعايش فيه القوميات والعقائد واللغات. وكان المسلمون في الإقليم على مرّ القرون عنصرًا فاعلًا في هذا التفاعل الثقافي والاجتماعي.
هذا العمق التاريخي يمنح حاضر شينجيانغ أهميته، إذ يشهد الإقليم اليوم تحولات كبرى بفضل سياسات الدولة التي جعلت “الاستقرار الدائم والتنمية الشاملة” هدفًا مركزيًا. فقد أظهر الكتاب الأبيض الصادر في ايلول( سبتمبر) 2025 حجم الإنجازات، من مضاعفة الناتج المحلي أكثر من ثلاث مرات خلال عقد، إلى القضاء على الفقر المدقع وتطوير بنية تحتية جعلت من أورومتشي مركزًا للتواصل مع آسيا الوسطى والعالم.
خلال زيارته إلى الإقليم في الذكرى السبعين لتأسيس منطقة شينجيانغ الويغورية ذاتية الحكم، شدد الرئيس شي جين بينغ على بناء شينجيانغ موحدة ومزدهرة، تقوم على التوازن بين التنمية والأمن، وتعزيز رابطة المصير المشترك للأمة الصينية، من خلال الابتكار العلمي والصناعي، وحماية البيئة، وضمان مشاركة الجميع في ثمار التنمية.
البعد التاريخي والسياسي
شكّلت شينجيانغ، أو “الأقاليم الغربية”، منذ القدم جسرًا بين الصين وآسيا الوسطى. فمنذ أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد وحتى أسرة تشينغ التي جعلتها مقاطعة عام 1884، كانت ساحة للتجارب في الإدارة والدمج القومي. وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، عملت القيادة على دمج الإقليم عبر إصلاحات اجتماعية واقتصادية، وأُعلنت عام 1955 “منطقة شينجيانغ الأويغورية ذاتية الحكم”، لتجسيد التنوع ضمن إطار الوحدة الوطنية. كما لعب “فيلق الإنتاج والبناء” دورًا أساسيًا في التنمية الزراعية وتأمين الحدود، جامعًا بين الطابعين العسكري والتنموي.
اليوم، تؤكد القيادة الصينية أن الهدف الأساس هو تحقيق “الاستقرار الدائم والسلام طويل الأمد”، كما شدّد الرئيس شي جين بينغ في زياراته المتكررة للإقليم.
الاستقرار والأمن
يبرز الكتاب الأبيض الأخير أهمية الأمن كركيزة للاستقرار. فبعد عقود شهدت أعمال عنف متفرقة، تحقّق ما تصفه بكين بـ”التحوّل من الفوضى إلى الاستقرار”، إذ لم تُسجّل منذ سنوات حوادث إرهابية كبيرة. وقد واصلت السلطات مكافحة الجرائم الخطيرة والمتكررة، من العنف إلى الجرائم الإلكترونية، عبر حملات مستمرة لتعزيز الأمن المجتمعي.
وفي عام 2024، حُلّت 98.5% من النزاعات المدنية بالوساطة، من خلال مبادرات محلية مبتكرة كـ”غرف الشاي” و”فرق الوساطة على ظهر الخيل”، ما يعكس بناء الثقة بين السكان والمؤسسات وتعزيز الإدارة المحلية.
هذا الاستقرار، كما توضح الوثيقة، جاء نتيجة مواجهة حازمة للنزعات الانفصالية والفكر المتطرف، بالتوازي مع حماية الحياة اليومية للغالبية الساحقة من السكان.
الاقتصاد والتنمية
ـ الأرقام الاقتصادية تشكّل العمود الفقري لسردية التحوّل في شينجيانغ.
ـ الناتج المحلي الإجمالي: ارتفع من 749.95 مليار يوان عام 2012 إلى أكثر من 2.05 تريليون يوان عام 2024، بمعدل نمو سنوي 7%. أي أن الاقتصاد تضاعف تقريبًا ثلاث مرات خلال 12 عامًا.
ـ نصيب الفرد من الناتج المحلي: قفز من 33,495 يوان إلى 78,660 يوان في الفترة نفسها، أي بزيادة تفوق 2.3 مرة.
الإيرادات العامة: ارتفعت من نحو 90.9 مليار يوان إلى 240.97 مليار يوان.
ـ على مستوى القطاعات، شهدت شينجيانغ تحوّلاً لافتًا: تراجع وزن الزراعة من 16.1% إلى 12.5%، بينما صعد قطاع الخدمات من 39.6% إلى 47.9% بحلول 2024، في انعكاس لانتقال تدريجي من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد أكثر تنوعًا.
الزراعة والطاقة والصناعة في شينجيانغ
تُعدّ شينجيانغ ركيزة اقتصادية محورية في الصين، تجمع بين الزراعة الحديثة والموارد الغنية والتطور الصناعي المتسارع. ففي عام 2024، بلغ إنتاج القطن 5.69 ملايين طن، أي 92.3% من إجمالي إنتاج الصين للعام الثاني والثلاثين على التوالي، فيما ارتفع إنتاج الحبوب إلى 23.3 مليون طن بزيادة 53.6% عن عام 2012. وبلغ معدل الميكنة الزراعية 97%، وهو مستوى يضاهي الدول المتقدمة.
وفي مجال الطاقة، تحولت شينجيانغ إلى قاعدة استراتيجية وطنية، إذ بلغ إنتاج النفط والغاز 66.64 مليون طن مكافئ، والفحم 543 مليون طن في 2024. كما تجاوزت القدرة المركبة للطاقة المتجددة 100 مليون كيلوواط، أي نحو نصف إجمالي الطاقة في الإقليم. إلى جانب ذلك، دخلت شينجيانغ عصر التكنولوجيا المتقدمة بمشاريع مثل مركز الابتكار الوطني لطاقة الرياح، والمختبر الذكي للحوسبة في أورومتشي، وحفر أعمق بئر نفطي في آسيا بعمق يتجاوز 10 آلاف متر في حقل تاريم، مما يعكس مسارًا تنمويًا متكاملًا يجمع بين الزراعة والطاقة والابتكار..
البنية التحتية والانفتاح
ـ إذا كان الاقتصاد هو المحرك، فإن البنية التحتية هي العمود الفقري.
ـ السكك الحديدية: ارتفع طول الشبكة من 4,914 كم في 2012 إلى 9,202 كم في 2024، لتغطي أكثر من 80% من المناطق الإدارية على مستوى المقاطعات.
ـ الطرق السريعة: توسعت من 165,900 كم إلى 230,000 كم.
ـ الطيران: عدد الخطوط الجوية بلغ 595، منها 25 دوليًا تصل إلى 17 دولة.
ـ الكهرباء: 12 ألف كم من خطوط 750 ك.ف. تنقل سنويًا أكثر من 100 مليار ك.و.س إلى 22 مقاطعة أخرى.
أما الانفتاح التجاري، فالأرقام أكثر دلالة:
ـ التجارة الخارجية قفزت من 158.9 مليار يوان (2012) إلى 434.1 مليار (2024).
ـ عام 2024 وحده شهد مرور 16,400 قطار عبر إكسينجيانغ ضمن خط الصين–أوروبا، للعام الخامس على التوالي بأكثر من 10 آلاف قطار.
ـ المنطقة التجريبية للتجارة الحرة التي أُنشئت في أورومتشي عام 2023 جذبت أكثر من 9,000 شركة خلال سنة واحدة، وساهمت بـ30% من تجارة الإقليم.
المجتمع والهوية الثقافية
بموازاة النمو الاقتصادي، أولت بكين اهتمامًا لهوية شينجيانغ الثقافية.
ـ هناك 471 قاعدة تعليمية للتربية الوطنية، و150 متحفًا مسجلاً، و9,545 موقعًا أثريًا.
ـ السياحة شهدت طفرة استثنائية: من 48.6 مليون سائح في 2012 إلى 302 مليون في 2024، بعوائد بلغت 359.5 مليار يوان.
ـ اللغة الصينية المعيارية أصبحت إلزامية في المدارس، في إطار سياسة “الاندماج عبر التعليم”.
ـ وفي مجال الفنون، حصلت أعمال مسرحية وروايات من شينجيانغ على جوائز قومية مثل “جائزة لو شون الأدبية”، فيما تحولت الأغاني والرقصات المحلية إلى جزء من المشهد الثقافي الصيني العام.
الرفاه الاجتماعي
التنمية لا تُقاس فقط بالناتج المحلي، بل أيضًا بالرفاه.
ـ منذ 2012، خصصت حكومة الإقليم أكثر من 70% من الميزانية العامة لبرامج الرعاية الاجتماعية.
ـ بحلول نهاية 2020، خرج 3.06 ملايين نسمة من الفقر، إلى جانب 3,666 قرية و35 مقاطعة.
ـ دخل الفرد في المناطق الريفية الفقيرة ارتفع من 5,090 يوان عام 2012 إلى 14,477 يوان عام 2021.
ـ نسب ملكية الأجهزة المنزلية تضاعفت: الثلاجات +49.5، الغسالات +51.6 لكل 100 أسرة.
الأرقام التي حملها الكتاب الأبيض عن شينجيانغ ليست مجرد مؤشرات إحصائية، بل تعبير عن تحوّل تاريخي أعاد صياغة علاقة الدولة بالمجتمع في إقليمٍ كان يومًا عنوانًا للتوترات. خلال عقد واحد، انتقلت شينجيانغ من بؤرة للعنف والتطرف إلى ساحة تنموية نابضة بالمشاريع الصناعية والطاقوية والسياحية، بفضل رؤية استراتيجية جعلت الأمن والتنمية متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
جيوسياسيًا، تكتسب شينجيانغ أهمية تتجاوز حدود الصين، إذ تقع عند تقاطع آسيا الوسطى وغرب آسيا وتشكل عقدة رئيسية في مبادرة “الحزام والطريق”. ومع تسجيل أكثر من 16 ألف رحلة قطار بضائع نحو أوروبا في عام واحد، تحولت المنطقة إلى جسر بري يربط الصين بالعالم القديم، مما يجعل استقرارها ضرورة للتنمية الإقليمية والدولية.
وراء هذه الطفرة الاقتصادية، تبرز جهود لتعزيز التلاحم الاجتماعي وبناء هوية وطنية جامعة تقوم على الدمج الثقافي والتكامل الاقتصادي. تجربة شينجيانغ تقدم نموذجًا لإدارة التنوع الإثني والديني في إطار الانسجام والوحدة، بما قد يلهم مناطق أخرى داخل الصين وخارجها.
من الناحية الإنسانية، خروج أكثر من 3 ملايين شخص من الفقر يعكس أن حقوق الإنسان تتجلى في الحق بالتنمية والتعليم والصحة والعيش الكريم. فدخل الفرد الريفي تضاعف ثلاث مرات تقريبًا خلال عقد، وتحولت حياة العائلات من البساطة والحرمان إلى الكرامة والازدهار.
ورغم استمرار صراع السرديات حول الإقليم، تُظهر الوقائع نجاح السياسات الصينية في تحويل التحديات إلى فرص. وتؤكد زيارة الرئيس شي جين بينغ الأخيرة إلى شينجيانغ التزام القيادة بالتنمية المستدامة وتحسين معيشة السكان، واضعة الإنسان في محور الاهتمام.
إن تجربة شينجيانغ تمثل نموذجًا للتوازن بين التنمية والحفاظ على الهوية، بين الأمن ورفاهية السكان. فهي تقدم مثالًا على كيفية تحويل منطقة حدودية معقدة إلى رافعة اقتصادية وثقافية، وتجسد فكرة أن التنمية هي الشرط الأول للاستقرار، وأن طريق “المصير المشترك للبشرية” يبدأ بتحقيق العدالة والازدهار داخل الوطن نفسه.