شهدت بكين عرضًا عسكريًا مهيبًا استقطب أنظار العالم بمناسبة الذكرى الـ80 للانتصار في حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية.، ليس فقط لما حمله من استعراض للقوة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، بل أيضًا لما تضمنه من رسائل سياسية عميقة. فالصين، التي تُصنَّف اليوم قوة صاعدة وركنًا رئيسيًا في معادلة النظام الدولي، تدرك أن استعراض القوة ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة لتأكيد نهجها الدفاعي ورسالتها الدبلوماسية في بناء عالم أكثر توازنًا وعدالة.
من يتابع الخطاب الرسمي الصيني يلمس بوضوح أن بكين لا تنظر إلى قوتها العسكرية كأداة للهيمنة أو التدخل في شؤون الآخرين، بل تراها درعًا يحمي مصالحها الوطنية ويؤمّن بيئتها التنموية. فالصين لم تبنِ قوتها من أجل فرض إرادتها على الدول، بل لحماية سيادتها واستقرارها الداخلي، وضمان بيئة سلمية تسمح باستكمال مسيرتها التنموية. هذه الرسالة، التي تتكرر في تصريحات القيادة الصينية، تحمل بعدًا مهمًا للعالم، خصوصًا للدول النامية التي لطالما عانت من التدخلات الخارجية وسياسات الإملاء.
تستند السياسة الخارجية الصينية إلى مبدأ ثابت يتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو مبدأ نابع من التجربة التاريخية للصين ذاتها، التي عانت من الاحتلال والاستغلال. لذلك، فهي اليوم ترفض منطق الإملاءات، وتؤكد أن لكل دولة الحق في اختيار طريقها التنموي وفق ظروفها الوطنية الخاصة. وهذا المبدأ لا يعكس فقط التزامًا أخلاقيًا، بل يمثل أيضًا قاعدة عملية لبناء شراكات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل.
في قلب الرؤية الصينية للعالم يقف مفهوم مجتمع المصير المشترك للبشرية، وهو تصور يتجاوز الحسابات الضيقة ليضع الإنسانية جمعاء في دائرة الاهتمام. فالعرض العسكري الأخير لم يكن مجرد إبراز للقوة، بل تذكير بأن الأمن لا يتحقق لدولة بمعزل عن أمن الآخرين، وأن التحديات الكبرى من تغير المناخ إلى الأمن الغذائي والطاقوي لا يمكن لأي دولة أن تواجهها وحدها. بهذا المعنى، تطرح الصين نموذجًا مختلفًا للحوكمة الدولية، يجعل التعاون والتضامن أساسًا لبناء المستقبل.
يتزامن هذا الحدث مع تحولات كبرى في النظام الدولي، حيث تتراجع فعالية الأحادية القطبية وتتقدم قوى جديدة من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. الصين لا تدعو إلى استبدال هيمنة بهيمنة أخرى، بل إلى إقامة عالم متعدد الأقطاب، يعكس التوازنات الجديدة، ويمنح الدول النامية مكانًا لائقًا في صنع القرار العالمي. هذه الرؤية تتقاطع مع مصالح شعوب الجنوب، التي ترى في التعددية فرصة لتحقيق العدالة الدولية وإنهاء احتكار القوة والقرار.
اللافت أن الصين، على عكس القوى التقليدية، توظف منطق القوة لخدمة التنمية، لا العكس. فعقيدتها الدفاعية مرتبطة بشكل وثيق بمسارها التنموي. وفي هذا الإطار، يمكن قراءة العرض العسكري كرسالة مزدوجة: قوة رادعة تحمي المصالح الوطنية، ورؤية سلمية تنفتح على العالم عبر مبادرات التنمية المشتركة مثل “الحزام والطريق”، و “مبادرة الامن العالمي” و”مبادرة التنمية العالمية”، ومبادرة الحضارة العالمية ” و”مبادرة الحوكمة العالمية”.
العرض العسكري في بكين لم يكن مجرد استعراض ميداني للقوة، بل فصلًا جديدًا في الدبلوماسية الصينية التي تمزج بين الردع العسكري والرسائل الإنسانية. الصين تقول للعالم بوضوح: نحن قوة كبرى، لكننا لسنا قوة متغطرسة. قوتنا لحماية السلم، لا لفرض الهيمنة. رسالتنا تقوم على التعاون، لا على الإقصاء. ورؤيتنا تنطلق من أن مستقبل البشرية واحد، وأن بناء نظام دولي أكثر عدالة وتوازنًا ليس خيارًا، بل ضرورة تاريخية.