شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
بقلم: ريماس الصينية – صحفية في CGTN العربية
أصدرت الهيئة الوطنية للإحصاء في الصين مؤخرا بيانات الأداء الاقتصادي للنصف الأول من عام 2025، حيث أظهرت التقديرات الأولية أن الناتج المحلي الإجمالي بلغ 66.05 تريليون يوان (نحو 9.24 تريليون دولار أمريكي)، مسجلا نموا بنسبة 5.3% بأسعار ثابتة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ووفقا للبيانات، بلغت مساهمة الطلب المحلي في هذا النمو 68.8%، منها 52% جاءت من الاستهلاك النهائي، مما يجعله المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي.
هذا التحول يعكس تغيرا هيكليا عميقا في نموذج التنمية الاقتصادية في الصين، من نموذج ”التوجيه نحو التصدير“ إلى ” قيادة الطلب المحلي“. وفي ظل بيئة عالمية تزداد فيها التوترات الجيوسياسية، وتصاعد النزعات الحمائية، وتباطؤ نمو التجارة الدولية، أصبح من الضروري للصين أن تعتمد بشكل متزايد على سوقها الداخلية لضمان الاستقرار والتنمية المستدامة.
الطلب المحلي كمرساة للاستقرار
من منظور الاقتصاد الكلي، أصبح الطلب المحلي القوي يشكل ركيزة أساسية لاستقرار النمو الاقتصادي في الصين. فقد شهدت بنية الاستهلاك تطورا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، مع تسارع نمو قطاعات الخدمات، وظهور أشكال جديدة من الاستهلاك في مجالات الثقافة، والسياحة، والرياضة. وفي عام 2023، تجاوز إجمالي مبيعات التجزئة للسلع الاستهلاكية 47 تريليون يوان لأول مرة. كما ارتفعت دخول السكان بشكل مستمر، وساهم اندماج الاقتصاد الرقمي واقتصاد المنصات مع الصناعات التقليدية في خلق نمط استهلاكي أكثر تنوعا ومرونة.
وفي ظل الضغوط التي تواجه ”محركات النمو الثلاثة“ وهي: الاستثمار، والصادرات، والاستهلاك، أصبح تعزيز الاستهلاك يحتل أولوية استراتيجية في السياسة الاقتصادية. وقد أدرج مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في أجندة عام 2025 مهمة ”تعزيز الاستهلاك، وتحسين كفاءة الاستثمار، والتوسع الشامل في الطلب المحلي“ كهدف رئيسي، استجابة لهذا التحول.
الأبعاد الاستراتيجية لنمو الاستهلاك
التحول نحو نموذج يعتمد على الطلب المحلي لا يقتصر على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، بل يتعداه إلى اعتبارات تتعلق بالأمن القومي والقدرة التنافسية الدولية.
أولا، من زاوية الأمن الاقتصادي، يعد الاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية محفوفا بالمخاطر، خاصة في ظل التقلبات الحادة في التجارة العالمية منذ عام 2020، وفرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية إضافية، وهو ما أثر سلبا على استقرار سلاسل الإمداد الدولية. لذا، فإن تنشيط السوق الداخلية وتعزيز استهلاك السكان يعد خيارا استراتيجيا لتعزيز قدرة الصين على مقاومة الصدمات الخارجية.
ثانيا، من منظور التأثير الدولي، فإن امتلاك سوق استهلاكية كبيرة ومتطورة يمنح الصين قوة تفاوضية أكبر في النظام الاقتصادي العالمي. ومع توسع السوق المحلية وتنوع الطلب، بات للصين تأثير متزايد في أنماط الإنتاج والتجارة العالمية، ما يعزز من موقعها في الحوكمة الاقتصادية الدولية.
ثالثا، فإن توسيع الطلب المحلي يفتح آفاقا جديدة أمام الشركات العالمية، ويعزز من تفاعل الاقتصاد الصيني مع الاقتصاد العالمي بطريقة أكثر توازنا، وهو ما يدعم مساهمة الصين في تعافي الاقتصاد الدولي.
محركات جديدة وهيكل أكثر مرونة
تشهد بنية الطلب المحلي في الصين تحولات نوعية، حيث لم يعد الاستهلاك يقتصر على السلع الأساسية، بل اتجه نحو منتجات وخدمات عالية الجودة ومتنوعة. فهناك نمو ملحوظ في قطاعات مثل السيارات الكهربائية، والأجهزة الذكية، والرعاية الصحية الرقمية، والمنتجات الثقافية المعتمدة على الملكية الفكرية. فعلى سبيل المثال، تستمر مبيعات السيارات الكهربائية في تحقيق أرقام قياسية، كما بدأ الطلب على الأجهزة المعززة بالذكاء الاصطناعي في الارتفاع، وبدأت منتجات النماذج اللغوية الكبيرة في دخول السوق الاستهلاكية تدريجيا.
تحفز هذه التحولات على صعيد ”الطلب”، إعادة هيكلة ”العرض“، وتسريع نمو الإنتاجية الجديدة، مما يعزز من تحول الاقتصاد نحو جودة أعلى وكفاءة أكبر.
وفي الوقت نفسه، تتجه الاستثمارات نحو قطاعات التكنولوجيا العالية، والعوائد المرتفعة، مثل البنية التحتية الذكية، والطاقة الخضراء، والصناعات الاستراتيجية الناشئة. ومن خلال الدفع بمشاريع البنية التحتية الجديدة والتقنيات المتقدمة، لم يعد الاستثمار يركز على ”الكم“، بل يتجه إلى ”النوع“، بما يضمن ديناميكية اقتصادية مستدامة.
آفاق مرسومة بالسوق المحلية
صرح الأمين العام للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، يوان دا، قائلا: ” لا يمكن تحقيق اقتصاد صيني مستقر وقوي دون سوق داخلية قوية“. هذه المقولة تعكس جوهر التوجه الاستراتيجي الحالي، حيث لا يعد الطلب المحلي مجرد حل مؤقت، بل يشكل أساس التنمية العالية الجودة على المدى البعيد.
ولتحقيق هذا الهدف، تحتاج الصين إلى تنفيذ إصلاحات أعمق تعزز من قدرة السكان على الاستهلاك، من خلال تحسين التوقعات الاقتصادية، وتوسيع قاعدة الطبقة المتوسطة، وتحسين خدمات الرعاية الصحية والتعليم، وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي. كما يجب التركيز على ابتكار مشاهد جديدة للاستهلاك، وتحديث أنماطه. وفي جانب الاستثمار، يتوجب توجيهه نحو التحول الأخضر، وتحديث الصناعات، والبنية التحتية الحديثة، مما يطلق مزيدا من إمكانات الطلب المحلي.
ومع دخول خطة “الخمسية الرابعة عشرة” مراحلها الأخيرة، تتسارع وتيرة تشكيل النموذج التنموي الجديد القائم على ”الدورة المحلية الكبرى“ المدعومة بـ”الدورة الدولية“، وهو نموذج يجسد خلاصة التجربة التنموية في السنوات الماضية، ويحدد بوضوح مسار الاقتصاد الصيني في المستقبل.
أكثر من رقم… تحول في منطق التنمية
إن نسبة 68.8% كمساهمة للطلب المحلي في النمو الاقتصادي ليست مجرد رقم إحصائي، بل هي تعبير عن تحول استراتيجي في منطق التنمية الاقتصادية. ومن المرجح أن يصبح هذا التحول من ”الاعتماد الخارجي“ إلى ”الديناميكية الذاتية“ الركيزة الأساسية للنمو المستقبلي في الصين.
ثقة دولية متزايدة
من منظور المراقبين الدوليين، تتزايد التوقعات الإيجابية تجاه مستقبل الاقتصاد الصيني. فقد رفعت مؤسسات مالية عالمية توقعاتها للنمو في الصين خلال عام 2025، في مؤشر على ثقة الأسواق العالمية بمرونة الاقتصاد الصيني وإمكاناته.فقد نقل موقع Ainvest الأمريكي عن ”مورغان ستانلي“ أنه رفع توقعاته للنمو الاقتصادي في الصين للعامين الحالي والمقبل، مستندا إلى الطلب العالمي القوي على المنتجات والخدمات الصينية، والسياسات التجارية المواتية، وتحسن ربحية الشركات. وأكد البنك أن هذه العوامل تعزز من الثقة في الأسواق، وتدعم استمرار النمو الصيني، مضيفا أن ”التحسن الهيكلي في الاقتصاد، والسياسات التجارية المنفتحة، والتقدم المستقر، كل ذلك يجعل آفاق الصين واعدة.“
من جهته، ذكر موقع Investing أن محللي ”مجموعة ING“ لاحظوا مرونة قوية في سوق الاستهلاك الصيني، رغم التحديات التجارية، مستشهدين ببيانات تشير إلى تجاوز مبيعات التجزئة للتوقعات في الأشهر الخمسة الأولى من العام، ما يعكس بوادر تعاف صحي للاقتصاد الصيني.
أما قناة CNBC الأمريكية، فأشارت إلى أن تفاؤل المؤسسات الدولية تجاه مستقبل الاقتصاد الصيني انعكس على أداء الأسواق المالية، حيث قامت ”سيتي جروب“ برفع تصنيف قطاع الاستهلاك الصيني من ”محايد“ إلى ”شراء“، مشيرة إلى فرص النمو الكبيرة في قطاعي التكنولوجيا والإنترنت. وصرح كبير مسؤولي الاستثمار في بنك ”ماي بنك“ الماليزي بأن قطاعي الاتصالات والخدمات الاستهلاكية في الصين يمثلان فرصا جذابة للغاية في ظل مستويات التقييم الحالية.
انطلاقة جديدة يقودها الطلب المحلي
تقف الصين اليوم على أعتاب مرحلة انتقالية حاسمة، تتحول فيها من ”مصنع العالم“ إلى ”محرك رئيسي للاقتصاد العالمي“. إن بروز الطلب المحلي لا يعيد فقط تشكيل مسار التنمية في الداخل، بل يعيد أيضا رسم ملامح الاقتصاد العالمي. ومع امتلاكها لسوق ضخمة، وقاعدة صناعية راسخة، وقوة استهلاكية متنامية، تسير الصين بخطى ثابتة نحو تحويل الاتجاه ”الإيجابي والمستقر“ إلى مسار ”مستدام وطويل الأمد“.