شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
بقلم: د. محمد زريق
باحث في جامعة صون يات سين ونائب سكرتير مركز دراسات الشرق الأوسط، عضو الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
منذ فجر التاريخ، عندما كانت البشرية تبدأ خطواتها الأولى نحو بناء الحضارات، نشأت روابط قوية وعميقة بين الصين والعرب. الصين، ذلك العملاق الأزلي، كانت منارةً يشعُّ نورها في الأفق البعيد، وأرضًا احتضنت على صدرها أساطير الأجداد وأحلام المبدعين. أما العرب، فقد كانوا أبحروا في بحار الحكمة واللغة، حاملين معهم عبق الصحراء وسحر التاريخ. وهكذا، بدأ جسراً من ذهب، جسرٌ قاده طريق الحرير، ليشكل آفاقًا واسعة من التلاقي والتعاون، وتحالفًا لا يمحوه الزمن.
طريق الحرير.. القصة التي لا تنتهي
طريق الحرير لم يكن مجرد مسار تجاري يحمل بضائعٍ فحسب، بل كان روايةً تتنفس في أزقة المدن، وترتسم على جبين الجبال، وتنقشها أنامل القوافل العابرة بين الصحراء والسهول. كان هذا الطريق شريانًا نابضًا، يربط الصين بالعالم العربي، يمر عبر أقاليم تُعبق بعطر التوابل، والحرير، والبخور، والأحجار الكريمة، وكان أشبه بشريان ينبض بحياة ثقافية وحضارية لا تنضب.
حينما كانت القوافل تمرُّ عبر واحات بادية العرب، كان الأهالي يستقبلونها بترحيب وشغف. كانت اللغة والحكايات تترجمها الأعين قبل الكلمات، والقلوب كانت تخفق كأنها نغمات آلة عود تتردد بين السطور. كل حبة رمل في صحراء العرب وكل شعاع شمس فوق جبال الصين يحمل قصة صداقة وتبادل حضاري، رسالة سلام، وعهد أخوة.
الصداقة التي زرعها الأجداد
منذ القدم، وقفت الصين والعرب على دروب التاريخ كشريكين في بناء الحضارات. كانت الصداقة بينهما كما يصفها المؤرخون، علاقة تُشبه الجذور العميقة لشجرة ضخمة، تمد أغصانها في سماء الزمن، وتستظل بأوراقها كل الشعوب. لم يكن الأمر مقتصرًا على التجارة فقط، بل شمل تبادل العلوم والفلسفة، والفنون، والأدب، والطموحات الإنسانية التي تجوب بها القلوب عبر الأزمان.
العرب جلبوا إلى الصين العلوم الرياضية، والطب، والفلك، والنحو، والفلسفة، حتى تأثر الأدب الصيني بحكايات ألف ليلة وليلة، واحتفى الشعراء الصينيون بأدب العرب، كما تأثر العرب بحكمة كونفوشيوس وعمق الفلسفة الصينية. إنهما، في جوهر علاقتهما، تجاذبا بجدلٍ حضاري أثمر عن واحات من المعرفة والثقافة والإنسانية.
في قلب التاريخ.. ملامح من المحبة
في عهد الدول الإسلامية الكبرى، خاصة في زمن الدولة العباسية، احتضنت بغداد، عاصمة العلم والحضارة، العلماء والتجار الصينيين، وتم تبادل السفراء والرسائل الدبلوماسية بين الدولتين. كان القادة العرب يُقدرون الصين واعتبروها شريكًا استراتيجيًا في حفظ السلام والتجارة، أما الصين فكانت تنظر إلى العرب كأهل كرم وفتح، وشركاء في بناء عالم يسوده الحوار والاحترام.
لم تقتصر العلاقات على السياسة والاقتصاد فقط، بل وصلت إلى عمق الروح. فالشعر العربي تغنى بالصين كرمز للجمال والبعيد، وكذلك احتفى الأدب الصيني بالعرب كأصدقاء وأخوة في الحضارة. لقد ظلت هذه التبادلات صامدة رغم العواصف والانتكاسات، شاهدة على قوة المودة والتفاهم بين شعبين جمعتهما الإنسانية قبل السياسة.
اليوم.. عهد جديد من التعاون
ها هي الصين والعالم العربي يخطوان اليوم بخطى ثابتة نحو مستقبل مشترك، مستلهمين من دروس الماضي، ومتطلعين إلى أفقٍ مزدهرٍ من التعاون. العمل معًا من خلال مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديد يشكل اليوم امتدادًا معاصرًا لذلك التاريخ العريق، حيث الاقتصاد، والثقافة، والتكنولوجيا، يلتقون في معابر جديدة تحمل آمال شعوب تتعانق بحب وتفاهم.
في هذه الرحلة، تزداد المودة، وتتعزز الثقة، لتكون علاقاتنا مع الصين كما الجذور العميقة التي لا تنفصل عن الشجرة، مهما عصفت بها الرياح. إن تاريخنا المشترك هو سندنا، وحاضرنا هو جسرنا إلى غدٍ مشرق، حيث تتلاقى الحضارات وتتبادل الأفكار والخبرات، على وقع نغمات السلام والازدهار.
فلنُعلن اليوم “عهد السماء المفتوحة”، عهدٌ لا يحدّه زمان ولا مكان، يعانق فيه الشعبان العربي والصيني أفق المستقبل بحكمةٍ لا تمحى من ذاكرة التاريخ. مبادرةٌ تضع الإنسان في قلب التعاون، وتجعل من العلم جسراً، ومن الثقافة لغة سلام، ومن التجارة نسيج أخوة لا تنفصل خيوطه عبر العصور. إنها دعوة إلى بناء عالمٍ جديد يُحتفى فيه بالاختلاف ويتوحد فيه الحلم، عالم تُشيد فيه الجسور بين حضارتين عظمتين، لتضيء بنورها دروب الأجيال القادمة، فتصبح قصة الصين والعرب ملحمة تُروى في كتب الزمن، لا بقوة السيوف، بل بقوة المحبة والتعاون والإيمان بمستقبلٍ مشترك.