شبكة طريق الحرير الاخبارية/
أذرتاج/
على الرغم من أن الدول الإفريقية وضعت حدًا للاستعمار الفرنسي وأعلنت استقلالها في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أنها لم تتمكن من التخلص الكامل من التبعية الاقتصادية. ومنذ عام 1960، بدأت فرنسا بتحديد نهجها السياسي الجديد في إفريقيا. وكان الهدف الأساسي من السياسة الجديدة التي انتهجتها باريس الرسمية تجاه إفريقيا هو الحفاظ على العلاقات الاقتصادية وابتكار وسائل نفوذ جديدة. وقد أُطلق على هذه السياسة الجديدة في الصحافة الفرنسية آنذاك اسم “فرانس أفريك”.
وبعد الانتقادات الشديدة التي وُجّهت إلى سياسة فرنسا في إفريقيا من قبل المجتمع الدولي، اندلعت اضطرابات في عدد من الدول خلال الفترة ما بين عامي 2020 و2023، وتم سحب الوحدات العسكرية الفرنسية من تلك البلدان. وقام الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2022 بزيارة المستعمرات السابقة سعيا منه الى تهدئة السكان، إلا أنه قوبل بالرفض وعاد إلى فرنسا وأعلنت باريس الرسمية “حيادها” مدعيةً بأن الاضطرابات شأن داخلي لتلك الدول وأن فرنسا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة. إن فرنسا التي أعلنت حيادها ليست في وارد التخلي عن السيطرة الاقتصادية بأي حال من الأحوال فجوهر المسألة يتمثل في أن 85 في المائة من احتياطيات الذهب والنقد الأجنبي لـ14 دولة إفريقية كانت تُحتفظ بها في البنك المركزي الفرنسي خلال فترة الاستعمار، مما يدرّ على ميزانية فرنسا ما يقارب 500 مليار دولار سنويًا. وتشكل الأموال المحصّلة من الدول المستعمَرة سابقًا نحو 40 في المائة من ميزانية فرنسا العامة.
لا تزال الأصول المالية الاحتياطية لدول مثل بنن وبوركينا فاسو وغينيا بيساو كوت ديفوار ومالي والنيجر والسنغال وتوغو والكاميرون وتشاد والغابون والكونغو وغيرها تحت السيطرة الفرنسية وبموجب القانون الذي أقرّه مجلس الشيوخ الفرنسي لا يُسمح للدول المذكورة أعلاه باستخدام أكثر من 15 في المائة من احتياطياتها سنويًا ويستمر هذا النظام الذي أُسس في خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم وأما الذين رفضوا هذا النظام فقد واجهوا عواقب وخيمة وعلى سبيل المثال، نظم أحمد سيكو توري، أول رئيس غينيا، استفتاءً عام 1958 أعلن فيه أن البلد سيخرج من مستعمرة فرنسا وسيتبع سياسة مستقلة وعند مغادرة رجال الأعمال الفرنسيين البلد قاموا بتدمير جميع المؤسسات بدءً من دور الحضانة وروضات الأطفال وصولاً إلى الشركات الحكومية الكبرى بناءً على تعليمات من باريس. وحتى في المناطق الريفية تم قتل الحيوانات الأليفة وكانت المستشفيات تفتقر إلى الأدوية. ومن ثم بدأت احتجاجات واسعة في البلد حيث كان الهدف منها أن لا تخطو الدول الأخرى خطوة نحو الاستقلال خوفًا من العواقب.
كما رفض رئيس توغو، سيلفانوس أوليمبيو، عام 1963، التوقيع على وثيقة تعاون في المجالات العسكرية والاقتصادية مع الرئيس الفرنسي شارل ديغول بسبب قسوة الشروط وفي ديسمبر من نفس العام، تم اغتياله على يد ضابط يُدعى إيتين غناسّينغ كان يدرس في فرنسا وفي 1962، تم اغتيال رئيس مالي، موديبو كيتا، على يد ضابط يُدعى موسى تراورا، كان قد خدم في الفيلق الفرنسي، بسبب رفضه إدخال العملة الموحدة التي فرضتها فرنسا في بلده. وفي 1966، تم تنفيذ الانقلابات في جمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وفي 1972 في بنن، من قبل ضباط خدموا في الفيلق الفرنسي، بناءً على خطة باريس. وعلق الرئيس جاك شيراك عام 2008 على الاضطرابات التي وقعت في الدول الإفريقية وأجاب على أسئلة الصحفيين قائلاً “بدون إفريقيا، ستصبح فرنسا من دول العالم الثالث”. وقال الرئيس فرانسوا ميتران مرة أخرى للصحفيين عام 1957 “في القرن الواحد والعشرين، لن تكون هناك فرنسا بدون إفريقيا”.
وتتهم اليوم وسائل الإعلام الغربية قادة الدول الإفريقية بإقامة أنظمة دكتاتورية وبتورطهم في علاقات فساد مع الدول الأوروبية ومع ذلك، تكمن حقيقة المسألة في أن الدول الإفريقية التي نالت استقلالها في الستينات بعد معارضتها للاستعمار الفرنسي قد تم إجبارها على توقيع اتفاقيات تعاون مع فرنسا.
وبسبب الخوف مما حدث لبقية الدول الإفريقية التي نالت استقلالها، أعلن رئيس السنغال ليوبولد سيدار سنغور عام 1958 قائلا “يختار شعب السنغال طريق الاستقلال فقط في إطار الصداقة والتعاون مع فرنسا”.
كما وافق كوت ديفوار بعد استقلالها على بقاء 450 جنديًا فرنسيًا في البلد. ومن ثم تم إنشاء وحدة عسكرية فرنسية أكبر في البلد. وعندما نظمت احتجاجات جماهيرية ضد الاستعمار الفرنسي في كوت ديفوار في 2006 قام ضباط الجيش الفرنسي بإطلاق النار على 65 شخصًا في مدينة أبيدجان مما أدى إلى مقتلهم وأصيب 1200 آخر برصاص.
وعندما نظم عام 2013 شعب مالي احتجاجات جماهيرية ضد الحكومة التي كانت بمثابة دمية بيد فرنسا واجهوا مقاومة من القوات الفرنسية الموجودة في البلد. حيث قامت القوات الجوية الفرنسية بقصف العاصمة باماكو إلى جانب مدن سيفاري وكونا وموبتي ونتيجة لذلك، لقي المئات من كبار السن والنساء والأطفال حتفهم. وأفادت منظمة “هيومن رايتس ووتش” المدافعة عن حقوق الإنسان الدولية بأن 10 أشخاص فقط قتلوا. أما هايتي فقد كانت مجبرة على دفع ضرائب لفرنسا بقيمة 21 مليار دولار من عام 1804 حتى عام 1947.
وبفضل الأنشطة التي قام بها الجواسيس الذين تم تعيينهم في هياكل الدول والحكومات في البلدان الإفريقية المستعمَرة من قبل فرنسا كان من السهل تنفيذ الانقلابات في هذه الدول.
ونشرت وسائل الإعلام الغربية في وقت سابق عددا كثيرا من المواد حول العمليات التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية في إفريقيا خلال الفترة ما بين 2010 و2015 وكانت تحمل الأسماء الرمزية “برخان” و”سرفال” و”هارماتان” و”بوالي” و”سانغاريس”.
وأما الجرائم العسكرية التي ارتكبتها فرنسا في الهند الصينية فهي موضوع مختلف تمامًا. فقد كتب بول ميو، المستشار السياسي لقيادة الجيش الفرنسي في منطقة الهند الصينية، في مذكراته أن فييت نام أصبحت مستعمرة فرنسية بالكامل عام 1885 وقُسمت إلى ثلاث مناطق وهي كوشينشين التي خضعت لوزارة التجارة والمستعمرات الفرنسية وأنام وتونكين اللتان خضعتا لوزارة الخارجية الفرنسية. وقد مُنحت هذه المناطق أوضاعًا قانونية مختلفة وبسبب الاستغلال القاسي انتفض الفييتناميون عام 1930 ولكن تم قمع هذه الانتفاضة بوحشية شديدة من قبل الجيش الفرنسي حيث تم قصف مدينة هانوي وتدمير قرية كوام بالكامل بسبب دعم سكانها للمتمردين.
وأشار الباحث الأمريكي ستون تينيسون في كتابه الذي نُشر عام 2010 في جامعة كاليفورنيا بعنوان “فييت نام 1946: كيف بدأت الحرب” إلى فظائع ارتكبها الجيش الفرنسي في فييت نام مدعومة بالحقائق وقد ورد في الكتاب أن 300 ألف شخص قُتلوا في فييت نام خلال فترة الاستعمار.
إن موقف فرنسا غير البنّاء تجاه أذربيجان اليوم لا ينبع إطلاقًا من رغبتها في نشر القيم الديمقراطية بل هو امتداد لتاريخها الاستعماري القائم على الاستغلال. وإذا كانت فرنسا تحسب الجرائم التي ارتكبتها في إفريقيا وآسيا وسيلةً لنشر الديمقراطية فليست أذربيجان بحاجة إلى مثل هذه الديمقراطية.