*جريدة الدستور الأردنية/
بقلم: الأكاديمي مروان سوداح
قبل أيام قليلة سارعتُ بالتوجه إلى وسط عمّان العَمّوني العريق، لأُسدّد فاتورة «الإنترنت»، خشيةً وخوفاً وارتعاداً من قطع خدماتها الحيوية عن بيتي، فتتعطل اتصالاتنا وأشغالنا وتتوقف حكايانا مع العالمين الداخلي والخارجي!
مَشيتُ بضعة أمتار مهموماً ومتفحّصاً بنكدٍ المتاجر العَمّانية بحُلتها المُجدَّدةِ التي أزاحت تراث العاصمة الأصيل الذي أَرّخَ للمملكة ودمرته إلى أبد الآبدين، لتحل محله محال تجارية جديدة ذات خدمات غاية في التنوع، لكنها خالية من نبض الحياة الذي اعتدنا عليه في صِغرنا لكونها بعيدة عن التواصل مع التاريخ وقصصه الرائعة. هذه الإنشاءات الجديدة لا تنطق بشيء، ولا حتى بكلمات مواساة، ويبدو أن دعائمها الصخرية مرغمة على حَمل أحمالها وهي تبكي حسرة.
دققت النظر في «البريد المركزي» الذي لم يَبقَ من آثاره الجميلة شيئاً، وتحسّرت على زمنٍ مضى لن يدركه أحفادي ولا حتى من خلال الصحف والكتب، فقد أُزيحت حجارة القرون الصلداء والشماء من محلها، لتحل مكانها أبنية بحجارة لامعة وخاوية من ذكريات وصور وحكايا الآباء والأجداد والجِدّات.
فجأة، نظرت خلفي ودُهشت وانعقد لساني. لقد مَثُلَ أمامي ما لم يكن في الحسبان أبداً. إنه محل جميل وأنيق، مُلوّن وجاذب للأعين، ومُحبّب للمحليين والأجانب مِن عُشاق «السكاكر البلدية»، وهي حلويات تقليدية متوارثة أباً عن جدٍ، يَشتهر بصناعتها وإتقانها مَهَرة قلائل في «الشرق العربي» فقط.
تبيّن لي أنه «ها هنا»، تُباع «الكنافة النابلسية» القديمة إيّاها بِحُلّتها الذهبية.. لكنها ليست كأي كنافة لازمت طفولتنا وزاملت كهولتنا. إنها في الواقع «كنافة الأجداد العُتقيّة».. كنافة نابلس التي صُنعت وما زالت تُصنع وفقاً لمواصفات الختيارية وورَثَتِها من أبناء الحاضر، ممن يقبضون على أسرارها في خزائنهم خشيةً من تشردها وضياعها مذ امتدت يد الاحتلال سارقة أرض كنعان بما فيها من تراث وآثار قومية، إذ حتى الفلافل وصحن الحمص والفول، والزي الفلسطيني التقليدي، والحَطَّة والعِقَال، والكوسا، والباذنجان، وورق الدوالي المَحشي، الذي ينطوي على جانب اجتماعي وحضاري وشعبي عربي «قح» لم تسلَم من لصوصيتهم، لكن أسرار الكنافة النابلسية وإن سطَا عليها سُرّاق الليل ولصوص الأرض أبالسة الحاضر، إلا أنها بقيت في بيوتاتنا محمية في القلب والعقل وتتنقل ما بين الآباء والأبناء.
لكن الأحلى والأطيب في هذه الكنافة التي لم أرَ مثيلاً لها من الرمثا إلى العقبة، أنها على شكل كعكة حقيقية «مُسَمسَمة» وفاخرة، لم نعتد عليها في الأردن، كما اعتاد على أمرها ناس لبنان، وربما غيرهم كذلك في أوطاننا العربية.
هذه الفكرة الجديدة تولّدت في عقل الشاب اليافع، السيد إسماعيل عبدالله غنيم، الذي عمل في المملكة في مجاله وأقام هذا المحل، ويواصل نشاطه في عددٍ من الدول العربية، ضمنها الخليجية، حيث استقر الحال به في سلطنة عُمان مُلتصقاً بفروعه هناك، وهي مشابهة لفرع عمّان.
الأهم في هذه التجربة الفريدة هو العامل الصحي، إذ يتم تحضير الكنافة على «فحم حجري» لا ينفث الدخان الأسود ولا يُلحق ضرراً بالبيئة والناس. إضافة إلى أن التجهيز يتم بإعداد أطباق «كنائفية» لكل شخص «على حِدَتِهِ» وضمن متطلباته، بعيداُ عن (السِّدر) الكبير التقليدي الذي اعتدنا رؤيته في محال الحلويات. وبالتالي، يمكن للشخص مراقبة عملية الطهي بنفسه، والتأكد من التزام العاملين بشروط الصحة والسلامة العامة، إلى غيرها من المسائل والمتطلبات التي تتصل بهذه العملية الغذائية وذوق الزبون، وهو لعمري ما لم أرَهُ في حياتي سوى في عمّان الشريفة.
شششكرا الف شكر استاذ خليل للنشر الفوري .. الله يعطيك العافية.. هذه الكنافة تؤشر على نابلس السليبة ووطننا المحتل تحت اقدم الصهاينة الذين سيلقون مصيرهم في التاريخ وقرار الامم العادل بحقهم انتقاما من جرائمهم وسرقاتهم حتى للطعام العربي والزي التقليدي ..!..