صحيفة الشعب اليومية أونلاين*
محمد نجيب الترهوني، تونسي الجنسية، رئيس مكتب العلاقات الخارجية والتبادل الدولي
بجامعة تلهاو لبرمجيات الصور المتحركة
حلّت العطلة، ومازال يفصلنا يوميّن فقط على عيد الربيع لسنة الفأر، وعليّ أن أفي بوعدي للابناء وآخذهم لقضاء العيد في بيت الجد (من جهة الام) بمدينة شيآن.
في الثامنة صباحا من يوم 22 فبراير، غادرنا مدينة نانتشانغ حاضرة مقاطعة جيانغشي جنوب شرقي الصين حيث نعيش. كانت البهجة تغمر وجوه ابنائي الذين صعدوا الى السيارة محمّلين بالهدايا للجدّ والجدّة. قطعنا في طريقنا إلى وجهتنا مقاطعة هوبي، لم نلحظ مايدعو للانتباه، كانت الرحلة عادية وممتعة، ماعدا بعض الاخبار المتناقلة بين الناس عن فيروس غامض أخذ في الانتشار بمقاطعة هوبي.
وصلنا في ذات اليوم بيت حمايا، وكان الاستقبال حارّا كعادة الصينيين دائما. وفي صباح اليوم التالي بدأت الاستعدادات على قدم وساق للاحتفال بالعيد واستقبال الضيوف. وفي غمرة هذه الاجواء العائلية المبهجة، لم تتوقف الأخبار الواردة علينا حول الوباء، وبدأ تواترها يعكّر صفو الفرح داخل المنزل.
أخذت مشاعر التوتر واليقظة تتسلل شيئا فشيئا بين أفراد العائلة وتحاصر أجواء الفرح، خاصة بعد اعلان الحكومة عن غلق مدينة ووهان بالكامل. لا احد يدخل اليها، ولا احد يخرج منها! تملكني المزيد من التوتر وأخذت أتابع الأخبار لحظة بلحظة. وعلمت ان العديد من القرى والمدن المجاورة لهوبي قد أغلقت معابرها المؤدية الى المقاطعة الموبوءة. كما راجت العديد من الشائعات عن قيام سكان بعض القرى باغلاق الطرقات. في الأثناء تزايدت نداءات الحكومة بوقف الزيارات المتبادلة بين العائلات وملازمة البيوت، وكانت استجابة المواطنين سريعة.
تبدّدت فرحة العيد، وسيطر على نفسي هاجس وحيد: كيف سأعود إلى بيتي في نانتشانغ. اذ تتوسط مقاطعة هوبي مقاطعة جيانغشي حيث أسكن ومقاطعة شنشي حيث يوجد بيت حمايا. ومع تزايد الأخبار والشائعات الواردة حول قيام المقاطعات المجاورة لهوبي بقطع المعابر والطرق، شعرت بأنه حتى السفر عبر مسار نصف دائري بعيدا عن هوبي لن يكون خيارا مضمون العواقب. فقد أصادف طريقا مقفلة أو قد تُقفل خهنان حدودها مع جيانغشي أو العكس بالعكس. كل الاحتمالات باتت واردة في ظل الأخبار المتواترة عن الانتشار السريع للفيروس وتزايد اعداد الاصابات خاصة في المقاطعات المجاورة لهوبي. ولاسيما في ظل الشائعات المقلقة والمتضاربة.
كان لزاما عليّ العودة إلى ناتشانغ، فأنا مسؤول عن مايقرب من 60 طالبا اجنبيا في الجامعة التي أعمل بها. وقد بدأ هؤلاء الطلاب يتملكهم الخوف والذعر ممايحدث وعليّ أن أكون إلى جانبهم في هذه اللحظات العصيبة. في المقابل، أدركُ أن عودتي ستعرض أبنائي وزوجتي لمخاطر غير متوقعة. لذا شعرت للحظة بأنني ممزق بين أبنائي وطلابي، ولكم تمنيت لو أن لديّ قدرة خارقة فأكون هنا وهناك في نفس الوقت…وماعليّ فعله الآن هو مواجهة الواقع كما هو بجسارة وحزم. نصحني بعض أصدقائي أن أعود على متن الطائرة، لكن هذا الخيار كان مخيفا بالنسبة لي. اذ لم يكن لدينا مايكفي من كمّامات، بعدما نفذت بسرعة البرق من السوق. كما تعد المطارات ومحطّات النقل أخطر الأماكن نقلا للعدوى. لذلك عزمت الرأي على العودة برّا في مسار نصف دائري عبر مقاطعة خهنان، في رحلة ليلية في الغالب، تزيد مسافتها عن 1500 كلم.
لم يكن هذا الخيار أقل مجازفة، لكنه كمايقول المثل العربي كان أهون الشرّين. استعنت بسلطات النقل المحلية، والتي تعاونت معي وأمدتني بخريطة لطريق العودة. طريق طويلة ومتعرجة، سنعبر خلالها مقاطعة خهنان ثم مقاطعة انهوي، ثم ندخل مقاطعة جيانغشي من البوابة الجنوبية. رحلة ستستغرق حوالي 20 ساعة بالسيارة، رفقة زوجتي وابني وابنتي.
أدركنا الليل في مستهل رحلتنا، كانت الطريق خالية، والسماء ملبّدة بالغيوم والجو كئيب، تزيد من كآبته نفسي الحائرة. أما ابني وابنتي المشاغبيْن، فكانا على غير العادة هادئين ومستكينين في المقعد الخلفي طوال الرحلة، فقد أدركا هما أيضا خطورة الوضع رغم براءة الأطفال.
خيّم صمت رهيب داخل السيارة، وكنت أطْبق بكلتا يديا على المقود وقدمي ماانفكّت تنهك دواسة البنزين. كنت أسارع الوقت كي أصل البيت قبل أي مستجد يحدث ونحن في الطريق. لاتوقف! لانزول من السيّارة! إلا للضرورة القصوى! كان الجو ممطرا في الخارج، فذكرتني ممسحة الزجاج الأمامي للسيارة وأعمدة الانارة التي تغمرنا بضوئها وسط الليل الدامس، كيف تأتي السعادة لتمسح الأحزان، وكيف تشرق الشمس فينقشع بنورها الظلام.
وصلنا في حدود الساعة الثانية عشرة ليلا معبر الدخول إلى مقاطعة انهوي. طلب منّا شرطي المرو الركون جانبا لاجراء مراقبة روتينية وقياس درجة حرارة أجسامنا. سألني من أين جئتم وإلى أين تذهبون؟ أجبت بشكل مقتضب: جئنا من شيآن، ونحن عائدون الى بيتنا في نانتشانغ!
كانت ابنتي الصغيرة مريم ذات الـ 9 سنوات تجلس في الخلف دون كمّامة. فقد باغتنا الفيروس ولم نأخذ الاستعدادات اللازمة، لكن الشرطي كان رجلا نبيلا. فقد أخرج من حقيبته كمّامتين ومدّهما لي. ثم أشار بيده: هيا، رافقتكم السلامة !!
بعثت سماحة الشرطي الدفء في قلوبنا في تلك الليلة الشتوية الباردة، وشحذت عزيمتنا أكثر على مواصلة رحلتنا الشاقة إلى البيت. وفي تمام الساعة السادسة والنصف صباحا، رست السيارة على مدخل مدينة نانتشانغ. استقبلتنا دورية أمنية، وهذه المرّة كانت الرقابة أشدّ، فهذا المعبر هو صمّام الآمان بالنسبة لأبناء المدينة.
بعد رحلة طويلة وتوتر وعناء شديديْن وصلنا إلى بيتنا اخيرا والحمدلله! كان حارس العمارة في انتظارنا، يلوح من بعيد بمحراره لقياس درجات الحراراة وتدوين المعطيات اللازمة. أما أنا فتركت زوجتي وابنائي يدخلون البيت أولا، وعدت أدراجي مسرعا نحو السوق. فقد خططنا لقضاء العطلة في شيآن، لذا لم يكن في البيت مايكفي من مؤونة، وكنت أخشى أن تفرغ الأسواق من المستلزمات بسبب هذا الوضع المستجد. لكن مافاجأني وطمأنني في ذات الوقت، هو أن كل السلع كانت متوفرة بكميات كبيرة في السوق. وكان الزبائن يتسوقون بشكل منتظم وطبيعي. وهو ماعزز ثقتي في قدرة الشعب الصيني على تجاوز محنة الوباء، وفي عودة الحياة الى سالف ايامها السعيدة قريبا.
وبعد أن رتبت أمور بيتي، سارعت على الفور لأتفقد طلابي وأعرف حاجياتهم. تحدثت معهم حول الوضع، وحاولت أن أطمئنهم قدر الامكان وأؤكد لهم وقوف الجامعة الى جانبهم وسهرها على رعايتهم وتوفير جميع حاجياتهم اثناء فترة الحجر الصحي. وبعد أن اطمئنيت عليهم، عدت مجددا الى البيت، ظانّا بأني الان قد تنفست الصعداء، وبات بامكاني أن اعتني بأبنائي وطلبتي معا بعد أن تجشمت عناء الالف ميل. لكن سعادتي لم تدم طويلا، فبعد ان وصلت البيت، رنّ هاتفي فجأة! كانت مكالمة من مكتب التعليم بالمقاطعة. طلب مني المسؤول، أن أتحول على الفور إلى المطار، فقد تم منع احد طلابي من العودة الى بلاده بعد أن تبين ارتفاع درجة حرارة جسمه، وتم وضعه تحت الرقابة الصحية. كان ذلك خبرا مفجعا بالنسبة لي، ووجدت نفسي ممزقا بين ابنائي وطلابي من جديد، وليس أمامي الاختيار. كنت شديد القلق على صحة طالبي، لكن في ذات الوقت، شعرت بقلق شديد على أبنائي وزوجتي. ماذا ان تبيّن أن الطالب مصاب بالعدوى؟ كيف سأعود لأبنائي حينها؟ ومامصير الطلبة الاخرين، ربما تسربت لهم العدوى أيضا؟ اتجهت مباشرة إلى المطار، لكن الموظفين هناك أعلموني بأن طالبي قد نُقل إلى المستشفى. وهنا تيقنت ظنوني وتأججت مخاوفي على الطالب اولا وعلى زملاءه ثم على نفسي وعائلتي ايضا. انتقلت من المطار إلى المستشفى، وفي الطريق اتصل بي مدير الجامعة، وأكد على ضرورة الوقوف الى جانب الطالب في هذا الظرف.
لخوف غريزة جُبلت في الانسان، ولا أنكر بأنني شعرت بشي من الخوف. لكني ثقتي في الله ومسؤوليتي تجاه طلابي كانتا أقوى من الخوف. وأنا في طريقي إلى المستشفى شعرت بأن السيارة باتت أكثر ثقلا والطريق غدت أطول، وصار هناك موج من الهواجس يتلاطم داخل رأسي، هواجس حول عائلتي وطلابي. لكن رنين الهاتف أيقظني مرة أخرى. انه المسؤول الحكومي على الطلبة الاجانب، وقد أخبرني بأنه سيصل في غضون 30 دقيقة الى المستشفى. رغم أن قدومه لن يغير في الوضع الصحي شيئا، لكن مجرّد وجود شخص آخر إلى جانبي أشعرني بالمواساة، ولاشك في أن المواساة الأكبر ستكون لطالبي المتواجد في المستشفى. وفي هذه اللحظة، جال بخاطري جنود الخفاء من اطباء وممرضين، والتضحيات الجسام التي يقدمونها يوميا في سبيل علاج المرضى والقضاء على الفيروس.
وصلت أنا والمسؤول الحكومي إلى المستشفى، وذهبنا للتحدث مع الطبيب، الذي قلل من مخاوفنا وأمدّنا بعدد من النصائح للوقاية. ثم بقينا ننتظر نتيجة التحليل، كنت أقف وأجلس، أذهب وأجيء، أدخل وأخرج، لكن الوقت ظل يمضي على مهل… وفي حدود الساعة الثانية عشرة ليلا، خرج الطبيب ونادى علينا. ذهبت إليه بخطوات مسرعة، ودقات قلبي أكاد أسمع وقعها بأذنيّا.
قلنا معا في عجل: خيرا يا دكتور؟!
قال الطبيب: اطمئنا، نتيجة التحليل سلبية، والطالب غير حامل للفيروس.
كانت سعادتي لاتوصف بسماع هذه الكلمات، لم يعد قلبي يضخ الدماء فقط حينها، بل وكذلك موجات قوية من الفرح يبعث بها في كامل شرايين جسمي. اخذت طالبي وعدت به الى السكن الجامعي، وها أنا كل يوم اعتني بأطفالي وطلابي معا، وأشعر بالسعادة بوجودي بينهم جميعا.