خاص بشبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
بقلم: الدكتور مختار فاتح بيديلي*
*طبيب وباحث في الشأن التركي وأوراسيا
جذور الأزمة تاريخياً
يقع إقليم ناغورني قره باغ داخل الأراضي الأذربيجانية، وتبلغ مساحته نحو 4800 كم2، ويقدر عدد سكانه بنحو 150 ألفاً، أرمينيا كانت تحتل، إضافة إلى إقليم ناغورني قره باغ ، خمس محافظات أخرى غربي أذربيجان منذ أكتوبر/تشرين الأول 1993، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي (آغدام) و(فضولي)، وتشكل الأراضي المحتلة نحو 20 بالمئة من أذربيجان، يسكنها أتراك أذريَّيين وكذلك الأرمن الذين جُلبوا لإسكانهم من مناطق عديدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك الأرمن الذين تم جلبهم من سوريا ولبنان والعراق وإيران. وقد كان الإقليم خاضعا لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم أُلحق بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان متمتعًا بحكم ذاتي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفيتي السابق.
تضاريس الإقليم أغلبها جبلية، وفيه أنهار تُسْتَغَل في إنتاج الكهرباء والري، كما أن موارد الإقليم الاقتصادية محدودة، ويرتكز النشاط الاقتصادي على الزراعة وتربية الماشية وبعض الصناعات الغذائية، ومن المحاصيل المشهورة الحبوب والقطن والتبغ.
في عام 1991 بدعم الميليشيات والمجموعات الانفصالية الأرمينية في قره باغ من قبل النظام في جمهورية أرمينيا وكذلك روسيا في تلك الفترة طالبت بالاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلة، فألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حربًا ضد المجموعات الأرمنية الانفصالية المدعومة من أرمينيا وروسيا التي قدمت الدعم العسكري واللوجستي للانفصاليين آنداك.
نَجَمَ عن الحرب التي استمرت بين 1992-1994 خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لِستِّ مناطق أذربيجانية أخرى ، فضلًا عن سقوط 30.000 قتيل وتهجير ما يقرب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من أتراك الأذربيجانيين.
لم تنته الحرب باتفاق سلام نهائي يحل المشكلة، رغم اعتبار الأمم المتحدة أرمينيا دولة محتلة لأراض أذربيجانية، واعتبار منطقة قره باغ أراضي أذربيجانية محتلة من قبل أرمينيا ، بعد ذلك تم إنشاء منظمة الأمن والتعاون الأوروبية مجموعة “مينسك” بعضوية كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود حلِّ مشكلة الإقليم دون إنجازات تُذكَر مند إنشائها.
لذلك فقد تجدد الصراع في الإقليم أكثر من مرة، وفي عام 2016 وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2020 أعلنت أذربيجان إحباط هجوم أرميني بالصواريخ، استهدف خط أنابيب النفط الأذربيجاني عبر جورجيا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، الذي يبعد نحو 50 كم من جبهة المواجهة, وفي نهاية شهر أيلول من عام 2020 حدثت جولة صراع تعد الأشد والأطول منذ توقيع اتفاق هدنة بين الدولتين عام 1994. وقد تبادلت دولتا أذربيجان وأرمينيا الاتهامات بقصف المدنيين، وتجنيد المقاتلين من خارج دولتيهما على أساس عرقي. وهددت المواجهات بتوسع رقعتها إلى حرب إقليمية ولو بالوكالة، خصوصاً بعد الدعم الإيراني والفرنسي والأمريكي لأرمينيا من جهة والدعم التركي القوي لأذربيجان من جهة أخرى التي من حقها تحرير كامل أراضيها من المحتل الغاصب الأرميني.
لقد كانت هناك محاولة من أرمينيا لاستغلال موقف تركيا لجر دول إقليمية إلى الصراع ومساندتها بذريعة وضع حد للنفوذ التركي في منطقة القوقاز، ولكنها باءت بالفشل بسبب الموقف الروسي من جهة واستمرار الدعم التركي العسكري واللوجستي لأذربيجان من ناحية أخرى. فاستطاعت أذربيجان في هذه الجولة أن تستعيد 80% من مناطقها المحتلة، أهمها كانت مدينة شوشا التاريخية والإستراتجية، مُحْدثة مفاجأة في موازين القوى والتكتيكات العسكرية، وخاصة فعالية الطيران المسير الذي حصلت عليه من الشقيقة الأكبر تركيا.
هنا لابد من الإشارة بأن المواقف الدولية التي اتسمت بالدعوة إلى وقف الحرب واللجوء للحوار، وبدت مواقف بعض الدول، وفي طليعتها روسيا، مغايرة لما اعتادت عليه أرمينيا على الأقل, وكذلك الموقف الفرنسي الداعم لأرمينيا، كانت واضحة بكل معاييرها.
تبحث هذه المقالة في تقدير الموقف في أبعاد الصراع الأذربيجاني الأرميني على إقليم ناغورني قره باغ الأذربيجانية، وتستشرف سيناريوهات مستقبله.. خلفية عامة عن الإقليم وخصائصه من كافة الجوانب .
أبعاد الصراع
تعد دوافع الصراع الأذربيجاني الأرميني على إقليم ناغورني قره باغ متعددة ومركبة، تتداخل فيها الأبعاد المحلية والثنائية بالإقليمية، وتحفز الصراع ثارات تاريخية وتعقيدات الجغرافيا الجيوسياسية والاقتصادية.
حيث تصوغ تركيا موقفها من النزاع وفق منظومة متشابكة من العوامل الدينية والتاريخية والعِرقية والمصالح الاقتصادية والسياسية، يجمعها مع أتراك أذربيجان العرق واللغة والدين، ويجعل العلاقة فيما بينهما حساسة ومحورية، “شعب واحد ولكن في دولتين“.
تركيا مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية تجاه إخوانهم الأتراك الأذربيجانيين، منذ الدولة العثمانية
إذا نظرنا إلى الخرائط الجغرافية والجيوبوليتيكية للمنطقة، نجد إن أذربيجان بمثابة منفذ لتركيا للجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، لاسيما من خصومها الذين يحيطون بها روسيا، أرمينيا وإيران.
يؤثِّر الوضع الحالي لإقليم ناغورني قره باغ، كونه محل نزاع، على سياسات تركيا تجاه منطقتي البلقان والقوقاز، فهو يَحدُّ من فاعليتها في حوضي الأدرياتيكي وقزوين بشكل مباشر. إن حلَّ مشكلة الإقليم وإزالة الحاجز الأرميني سيمكِّنها من التواصل عبر منطقة ناختشيفان مع أذربيجان والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، بما يصنع منها قوة إقليمية كبرى.
ومن ناحية أخرى تتعمد أرمينيا استحضار الدور التركي كفاعل في تحقيق أذربيجان التقدم العسكري على الأرض، وتستدعي الخصومات التاريخية في محاولة لجر دول أخرى للتدخل المباشر، وأبرز تلك الدول روسيا وفرنسا.
البعد الاقتصادي
تعمل أذربيجان على زيادة مواردها المالية واستغلال ثرواتها، وتحاول الأطراف الإقليمية تهديد أنابيب النفط الممتدة إلى تركيا، التي تسعى إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني، وتنويع خياراتها بما ينعكس إيجاباً على تقوية قرارها السياسي، كما أنها تحاول أن تمرر مصادر الطاقة إلى أوروبا عبر أراضيها ومياهها.
فالعلاقات الاقتصادية وثيقة وقوية بين تركيا وأذربيجان؛ حيث تجمع البلدين عدَّة إطارات اقتصادية أهمها اللجنة الاقتصادية المشتركة والمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي. كما أن أمن الطاقة التركي مرتبط بأذربيجان، التي هي إحدى أهم الدول المصدِّرة للغاز الطبيعي، وتعوِّل عليها في السعي نحو تقليل نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني؛ كما تؤمِّن مشاريع مدِّ أنابيب الغاز الأذري حاجيات تركيا من الغاز الطبيعي، فضلًا عن كونها ممرًّا لغاز بحر قزوين إلى الدول الأوروبية، مثل مشروعي باكو-تفليس-جيهان، و”تاناب” (مشروع غاز عبر الأناضول) الذي يُتوقع الانتهاء منه عام 2018.
وبالنسبة لروسيا، فتصوغ أيضًا مقاربتها للنزاع، منها إرث روسيا التاريخي في السيطرة على المنطقة في عهدي روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي السابق.
تشكِّل منطقة جنوب القوقاز أرمينيا وأذربيجان وجورجيا بالنسبة لروسيا عمقًا استراتيجيًّا، وحديقة خلفية لا يمكن التفريط باستقرارها وأمنها، المنافسة على أحواض الغاز الطبيعي في بحر قزوين، وخطوط مروره إلى أوروبا.
تُعتبر أرمينيا شريكًا استراتيجيًّا لروسيا، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا
وتعتبر أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي وهي المنظمة التي انسحب منها كل من أذربيجان وجورجيا عام 1999.كما تعتبر روسيا ضامنة للأمن والاستقرار في جنوب القوقاز وحوض بحر قزوين، كقوة إقليمية عسكرية، وكدولة سيطرت تاريخيًّا على المنطقة، وباعتبارها أيضًا مصدرًا مهمًّا للسلاح لكل من أرمينيا وأذربيجان على حدٍّ سواء. تأثير اللوبي الأرميني في الداخل الروسي حيث قدَّر عدد الأرمن فيها بـ1.3 مليون شخص تقريبا.
يعتبر النفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز موازِنًا مهمًّا للدور التركي ومن خلفه الأميركي والأوروبي هناك، فضلًا عن إعاقته تواصل تركيا مع الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى. تعمل إيران وروسيا ودول أوروبا على وضع العراقيل أمام توجهات تركيا إلى إعادة تقوية علاقاتها مع دول القوقاز حتى لا يتوسع نفوذ تركيا, وتحتفظ روسيا بقواعد عسكرية على الأراضي الأرمينية في منطقتي أربوني وغيومري القريبة من الحدود التركية.
يتكامل التواجد الروسي العسكري في أرمينيا مع احتلالها العسكري لأراض من جورجيا وعلاقاتها الإستراتيجية مع إيران، ضمن منظومة موسكو الجيوبوليتيكية. وكذلك تسعى روسيا منع تقارب أرمينيا مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
المواقف الدولية من الصراع
جميع المواقف الدولية تقر بحق أذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ تاريخيا وجغرافيا، وإقرار القوانين الدولية الصادرة حول ذلك، ورغم ذلك فإن بعض الدول تبني مواقفها وفق عوامل وحسابات سياسية واقتصادية أخرى.
أُنشئت عام 1992 مجموعة مينسك بهدف التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني قره باغ من قِبل مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، لكن المجموعة فشلت في تحقيق هدف تأسيسها. وتترأس المجموعة على نحو مشترك كل من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، في حين تضم في عضويتها تركيا وفنلندا وألمانيا وبيلاروسيا وهولندا والسويد والبرتغال وإيطاليا، بالإضافة إلى أرمينيا وأذربيجان.
وأعلنت منظمة التعاون الإسلامي والتي تضم 57 دولة، ومقرها مدينة جدة السعودية عن رفضها للانتخابات التي أجريت في إقليم ناغورني قره باغ الأذربيجانية ، في 31 مارس/آذار 2020؛ لأن أرمينيا كانت تحتل تلك الأراضي.
الموقف التركي من حرب قره باغ الثانية
كانت تركيا منذ بداية المواجهات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا قد أعلنت صراحة وقوفها مع أتراك أذربيجان في تحرير أراضيها من الاحتلال الأرميني، معلنة وضع كافة إمكاناتها العسكرية في مساندة أذربيجان، لأنهم شعب واحد في دولتين. ووضع الأتراك كل ثقلهم السياسي واللوجستي في تعزيز موقف إخوانهم في أذربيجان، وقد أبرزت في هذه الحرب قُدُرات الطيران التركي المسير (بيرقدار) في تدمير الأهداف والمعدات العسكرية الأرمينية، مدعومة بمقاطع الفيديوهات التي كشفت حجم الخسائر التي تعرضت لها القوات الأرمينية وأضعفت موقفها.
الموقف الروسي من حرب قره باغ الثانية
دعوة طرفي الصراع الأذربيجاني والأرميني إلى وقف إطلاق النار واعتماد التفاوض، وعلى الرغم من أن روسيا تعد الحليف الرئيسي لأرمينيا، ولها قواعد عسكرية في أرمينيا، فإن الموقف الروسي جاء مغايراً لما اعتادته أرمينيا، في حين أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أن بلاده مستعدة للوفاء بالتزاماتها أمام أرمينيا كحليف، إلا أن الأعمال القتالية لا تجري على الأراضي الأرمينية في إشارة واضحة إلى أن منطقة ناغورني قره باغ ليست أرمينية وإنما هي أراض أذربيجانية.
ويُقرأ الموقف الروسي على أنه رد فعل على تطور علاقة أرمينيا مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وانشغال روسيا في أكثر من ساحة صراع.
الموقف الإيراني من حرب قره باغ الثانية
إيران تتعامل حول مشكلة إقليم ناغورني قره باغ بين الجارتين أذربيجان وأرمينيا بنوع من الحذر، ولكن بدعم الجانب الأرميني السري والعلني أحيانا، لإدراك خطورة الوضع على أمنها القومي، وذلك على بُعدين رئيسين؛ الأول يتمثل داخليا في خشية من انتقال الصراع ما بين الأرمن والأتراك الأذربيجانيين الجنوبيين في الداخل الإيراني الدين يُقدر عددهم حوالي 40 مليون الذين، يربطهم مع باكو وأنقره العرق القومي التركي المشترك، كما يتمتع أرمن إيران بنفوذ أيضا داخل إيران رغم محدودية عددهم، وبالمقابل حدثت مظاهرات وتنديدات وقطع الطرقات من قبل أتراك أذربيجان الجنوبية لإيران، مستنكرين موقف بلادهم إيران الداعم لأرمينيا في صراع وطنهم إلام أذربيجان ضد أرمينيا التي تحتل أراضي ناغورن قره باغ.3
طبعا البعد الثاني الايراني يتمثل في زيادة النفوذ القومي لأنقره وتقوية روابطه العرقية مع أشقائهم الأتراك الأذربيجانيين على حساب التباينات المذهبية.
إن النموذج السياسي لجمهورية أذربيجان أقرب للنموذج التركي، ويختلف عن النموذج الإيراني (ولاية الفقيه)،وهو ما يعني أن نموذج أذربيجان السياسي سيكون ملهماً لأتراك أذربيجان الجنوبية في إيران على حساب النموذج الإيراني المذهبي المتسلط على رقاب شعبه.
الموقف الغربي من حرب ناغورني قره باغ الثانية
موقف فرنسا كانت بين المطرقة والسندان، حيث أن باريس اختارت منذ البداية معسكرها، وأعلنت دعمها لكامل لأرمينيا، غير أن فرنسا وقفت عاجزة أمام التطورات الميدانية.
اتهمت فيه أذربيجان فرنسا بعدم الحياد وبتصريحات أحادية الجانب تقف إلى جانب أرمينيا، بدلاً من أن تكون محايدة كرئيسة مشاركة في مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
أما الموقف الأمريكي فقد كان محدوداً متأثرا بحالة الانشغال الداخلي بانتخابات الرئاسة الامريكية.
مواقف الدول العربية من حرب ناغورني قره باغ الثانية
طبعا الدول العربية حاولت أن تمسك العصا من النصف، مع ميول بعض تلك الدول الداعم لأرمينيا الغاصب للأراضي الأذربيجانية بشكل علني، مثل الامارات العربية وجمهورية مصر العربية، ولبنان وسوريا. فالسعودية أكدت أنها تتابع التطورات بـبالغ القلق وحثت الطرفين على وقف إطلاق النار وحل النزاع وفقاً لقرارات مجلس الأمن.
أما وسائل الإعلام العربية كانت منقسمة وفقاً لطبيعة علاقات دولها مع تركيا، حيث انعكست ميولها في تغطيتها للصراع وإبراز المواقف، فتتبنى وسائل الإعلام الاماراتية والمصرية واللبنانية والسورية الحكومية موقف الداعم لأرمينيا، كما كانت قنوات الجزيرة القطرية الداعم الرئيسي لمواقف أذربيجان الرسمية، بينما أغلب المواقف الشعبية العربية فقد انحازت إلى أذربيجان.
السيناريوهات المستقبلية بعد اتفاق سلام بطعم الاستسلام في حرب ناغورني قره باغ الثانية
نجحت أذربيجان في استرداد جزء كبير من أراضيها التي تحتلها القوات الأرمينية منذ ثلاثة عقود، حيث عجزت القرارات الأممية وترويكا “مينسك”، الأميركية والروسية والفرنسية، في إعادة هذه الأراضي إليها، تحت ذريعة تثبيت الوضع القائم وإبقاء الأمور كما هي عليه، لتجنب انهيار أحجار الدومينو في القوقاز، والقائمة على توازنات إقليمية ودولية حساسة. نجد أن روسيا هي المحرّك الأول لكل ما يجري على الساحة، والمستفيد الأكبر من كل التطورات العسكرية والميدانية والسياسية لاحقا، بعد فرض نفسها على الاتفاقات التي تمت، بين باكو ويريفان.
إذا نظرنا الى تاريخ الصراع الأذربيجاني الأرميني يتضح لنا مدى التعقيد فيه من كل الجوانب، على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي، بسبب تقاطع المصالح، ومحدودية الخيارات. حيث إذا أجرينا مقارنة بين الجيشين الأذربيجاني والأرميني وفقًا لبعض المصادر، يظهر الجيش الأذربيجاني في المركز الـ 60 والجيش الأرميني بالمركز الـ 94 من أصل 126 جيشًا على مستوى العالم. وفي حرب ناغورني قره باغ الثانية ترك الروس الساحة لأذربيجان تتحرّك عسكريا بالتنسيق مع تركيا، لتوجيه رسالة مباشرة إلى حكومة باشينيان التي خرجت عن بيت الطاعة الروسي، وبدأت تستقوي بعلاقتها مع الغرب، لكنه تدخل سريعا لوقف المعارك، عندما شعر أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، بعد الدخول السريع للقوات الأذربيجانية إلى مدينة شوشا، والاستعداد للحسم العسكري، عبر توجيه ضربة قاضية للجيش الأرميني لا لإخراجه من أراضيها فقط، بل لتمنعه من استرداد أنفاسه سنوات طويلة. وطبعا حصلت روسيا على كل ما تريده، ولقنت أرمينيا دروس وباتجاهين، أرميني وغربي يعني اللوبي الأرميني.
وكسبت باكو إلى جانبها بتجاهل عملياتها العسكرية ناغورني قره باغ، وتقاسم النفوذ مع انقره في مشاريع استراتيجية متعدّدة الجوانب والأهداف، ستكون مربحةً ومغريةً للطرفين. واختارت موسكو أن تعطي لباكو وأنقرة ما تريدان في ناغورني قره باغ بسحب القوات الأرمينية المحتلة من الإقليم، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وإشراك تركيا في اللعبة، مقابل وقف القتال بضمانات وإشراف روسي على الملف، وعدم تدويل الأزمة. هنا نجد أن روسيا تريد أن تضع يدها على الانتصارات التي حققتها باكو في ناغورني قره باغ، وباكو تريد الاستقواء بالدور التركي المفتوح لموازنة كافة الاحتمالات والمتغيرات المستقبلية. ولذلك يمكن استشراف مستقبل الصراع بين الدولتين الجارتين في سيناريوهين رئيسين قد تؤثر فيهما متغيرات دولية فرعية.
السيناريو الأول: حالة لا حرب ولا سلم بين البلدين
حيث يحاول الطرفان فرض إرادتهما على الآخر بدعم خارجي وتثبيت مكتسباتهما، فالاتفاق الذي أبرمته أذربيجان مع أرمينيا بوساطة روسية لوقف إطلاق النار في إقليم ناغورني قره باغ هو “وثيقة استسلام” أُرغمت يريفان على توقيعها بعد ستّة أسابيع من المعارك الضاربه. ستسعى الآن أذربيجان إلى تحرير ما تبقى من أرضيها مدعومة بالشرعية الدولية وفارق الإمكانات التي توفرت لها الآن من الناحية العسكرية بعد أن حررت أكثر من 80% من أراضيها المحتلة في حرب قره باغ الثانية ,حيث بقيت هناك عاصمة المنطقة مدينة خان كيندي وبعض القرى الأذربيجانية المحدودة بحماية من قوات حفظ السلام الروسية مع نقاط مراقبة تركية.
ومن جهة أخرى ستحاول أرمينيا دفع المجتمع الدولي لتغيير موقفه من احتلالها لجزء من ناغورني قره باغ الأذربيجانية بحجة تمكين المقيمين الأرمن فيها من تمثيل إقليمهم والاعتراف بكيانهم، بعد ان تم تهجير أكثر من مليون من الأتراك الأذربيجانيين إبان حرب قره باغ الأولى.
يدعم هذا السيناريو العداوات التاريخية وحالة الحشد العرقي لطرفي الصراع، وصعوبة التسوية؛ نظراً لوجود الإقليم داخل الأراضي الأذربيجانية، وكذلك استمرار الدعم التركي لأذربيجان السياسي واللوجستي، وفرض تغيير معادلات التفاوض بما يحافظ على سيادة أذربيجان على مدينة خان كيندي المحتلة من قبل أرمينيا كخيار آخر. يدفع بعض الدول المناوئة للنفوذ التركي إلى محاولة فرض الأمر الواقع الحالي، ولو بدعم أرمينيا سياسياً ، وفي طليعة هذه الدول روسيا وفرنسا واليونان وإيران، وهو ما ينعكس سلباً على مستقبل المنطقة، وسينقله إلى حرب بالوكالة في المستقبل.
يبدو أن سيناريو مساومة موسكو مع باريس وواشنطن، شريكي مجموعة “مينسك” تراجع لصالح التنسيق التركي الروسي. واسقط التفاهم التركي الروسي كل سيناريوهات الحل الأوروبية التي كانت تدعو إلى اعتراف الأطراف الثلاث، أرمينيا وأذربيجان وإقليم ناغورني قره باغ ، بوحدة أراضي أذربيجان، مقروناً بنظام حكم ذاتي للإقليم.
السيناريو الثاني: الهدنة الهشة القابلة للانفجار في لحظة
تم قبول الأطراف بوقف إطلاق النار والتوقيع على الاتفاق الثلاثي الاذربيجاني والروسي والارميني ، من خلال استعادة أذربيجان للمناطق المحتلة ودفع المواقف الدولية للضغط على أرمينيا لإيجاد تسوية عادلة.
الاتفاق الثلاثي على الهدنة ليست حلاً سلميًا نهائيا بين الدولتين الجارتين مع دخول قوات حفظ السلام الروسية إلى المنطقة، تُمنح موسكو مرة أخرى دور الحكم وضابط الشرطة، لكن هذه المرة بشراكة مع تركيا ولو كانت هذه الشركة محدودة عمليا. فأرمينيا خسرت الحرب، وانتصرت أذربيجان.
ولن يشعر الأرمن الموجودين في ناغورني قره باغ بأنهم في وطنهم، لكن الأذربيجانيين المنتصرين لم يعد لديهم سبب حقيقي لإجراء مفاوضات جديدة في مجموعة مينسك وغيرها.
طبعا الصراع دخل مرحلة جديدة بين الدولتين، لكن لم ينته بأي حال من الأحوال, هل سنرى جولات وصولات أخرى من المعارك في المستقبل بين الطرفين في ظل الهدنة الهشة وخاصة من طرف الأرمن الذين يخرقون الهدنة المتفق عليها بتحرشات هنا وهناك ضد الأذربيجانيين. إلى الآن المجتمع الأرميني لم يصحو من صدمة خسارة المعركة وفقدانهم لمناطق كثيرة كانت محتلة من قبلهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الأرمن الآن لا يثقون بالروس الذين لم يساندونهم في حربهم الأخيرة “حيث قتل الكثير من الجيش الأرميني“.
جزء كبير من أوراق اللعبة في ناغورني قره باغ هو الآن في يد أطراف دولية وخاصة روسيا وتركيا، اللذان اتفاقا على تفعيل مركز مشترك للإشراف على وقف إطلاق النار ولضمان تنفيذ الاتفاق. وتدرك موسكو أن أرمينيا بحاجة إلى روسيا أكثر مما تحتاج إليها روسيا، ومع ذلك فإن التداعيات قد تعني فقدان إحدى حدائقها الخلفية في ساحة الاتحاد السوفياتي السابق.
وفي إطار استمرار لعبة الأمم وهيمنة القوى الإقليمية على القرار، تبقى منطقة ناغورني قره باغ بؤرة ساخنة عرضة للانفجار في أي وقت، لا نعرف ما تخبئه لنا المتغيرات على الساحة المحلية والدولية في الفترة القادمة، طالما بقيت الخلافات بلا حسم نهائي، بانتظار تغيير جديد على الوضع الراهن في صالح أي من الطرفين.
*ملاحظة المحرر: المقالة تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة موقف الشبكة.