الحوار المتمدن/
طارق قديس*
ليس خفياً على أحد أنه بحسب التوقعات الاقتصادية أن جمهورية الصين الشعبية ستحصد المرتبة الأولى عالمياً متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية، فيما ستتراجع الأخيرة إلى المرتبة الثانية بحلول عام2027 بحسب دراسة شركة الاستشارت المالية العالمية PWC نشرتها في عام 2018، وذلك قبل أن يُداهم العالم وباء كورونا، ويُعَجِّل من عجلة الانقلاب في موازين القوى السياسية والاقتصادية، حيث أفرزت الأزمة التي رأت دول العالم نفسها أمامها وجهاً لوجه عدة حقائق لا سبيل لإنكارها، أهمها: فاعلية النموذج الاشتراكي الصيني في حصار الوباء، مقابل عجز الأنظمة الرأسمالية الكبرى في الحد من انتشاره، وإقبال العالم على نظام جديد من التحالفات الإقليمية المختلفة.
فنجاح القيادة الصينية الحكيمة انطلاقاً من توجيهات الرئيس شي جين بينغ المرتكزة على تثبيت دعائم الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في المجتمع، كان خير دليل على قدرة النظام الاشتراكي بألوان صينية في التعامل مع المرض في منطقة ووهان، حيث أصدر الحزب الشيوعي توصياته بتطويق المرض في ولاية المنشأ، وعزل المرضى في أماكن منفصلة، وقام بإنشاء مستشفى للعلاج في زمن قياسي لم ينمُ للسمعِ من قبل، دون الإهمال باحتياجات السكان ومتطلباتهم الحياتية اليومية. وذلك في الوقت الذي تم إخطار منظمة الصحة العالمية بتداعيات المرض وسرعة انتقاله بين البشر.
هذا من جهة، أما الدولة الرأسمالية، فقد نأت معظمها بشؤونها الداخلية الاقتصادية والصحية عما ألمَّ ببكّين في الشرق، وأبدت لا مبالاةً حيالَ ما يحدث، وكأنها اعتبرت ما يجري شأناً صينيّاً خالصاً، فضلاً عن دولٍ أخرى وجدت في الأزمة الصحية فرصة للشماتة في جمهورية الصين الشعبية منتظرةً سقوطاً مدويّاً لها في الحد من تفشي المرض الذي لا محالة سيودي بها إلى مُنزلقٍ خطير سيخرجها في النهاية من حلبة السباق الاقتصادي الشرس. إلا أنها نتيجة عدم الاكتراث بخطورة التحذيرات الصينية، والتنبيهات المشيرة إلى تعدد طرق العدوى بالفيروس وقعت في فخ الوباء، ولم تتيقن من حجم الكارثة إلا بعد أن حطَّ شبحه على أوروبا – تحديداً إيطاليا – والولايات المتحدة الأمريكية، وتفشي في مدة لم تتجاوز الثلاثة أسابيع بضراوة ما بعدها ضراوة، لم تعثر معه عن سبيل لمجابهته سوى أن تنغلق كل دولة على ذاتها، في الوقت الذي أخذ المجتمع الدولي بأكمله يبحث عن لقاحٍ مرتقب للفيروص وعلاجٍ يقيه عواقب الاستسلام لهذه الأزمة.
إلى جانب ما سبق، أتت هذه المحنة لتبين عجز الولايات المتحدة و هشاشة نظامها الرأسمالي العتيق أمام عدو خفي لا ترصده العين المجردة، فلا مركزية القرار ووقوع غالبية النظام الصحي تحت قبضة القطاع الخاص حدَّت من قدرة الدولة على احتواء المرض وتوفير سُبُل العلاج الكافية للمرضى والمصابين والحالات المشتبه بإصابتها، من أسِرَّة، وعلاجات، وكمامات، وأجهزة تنفس اصطناعية، الأمر الذي احتاج وقتاً كي تدخل الحكومة الأمريكية في مفاوضاتٍ مع شركات القطاع الخاص المتنفذة كي توفر لها العدد الكافي من المعدات لاحتواء أعداد المصابين المتزايدة بشكل رهيب. الأمر الذي وصل بالإدارة الأمريكية إلى استدعاء أكبر مستشفى عسكري عائم في البلاد وهي السفينة الطبية “كومفورت” للرسو على شاطئ مدينة نيويورك لإجلاء المرضى الذين لا يعانون من الفيروس إليها، كي تتفرغ المستشفيات هناك لاستقبال المصابين بفيروس كورونا فقط.
وهو ما يقودنا بدوره إلى الحقيقة الثالثة، وهي أن انغماس الولايات المتحدة في محنتها، وكذلك انكفاء كل دولة أوروبية على ذاتها لاتقاء مذبحة جماعية على يد هذا الكائن المجهري الغاية في الصغر، أثبت حقيقة أن الوحدة الدولية في ظل الأنظمة الرأسمالية الكلاسيكية، والتي لا تهتم كل واحدة فيها إلا بما تُدرُّه الاتفاقيات التجارية والاقتصادية عليها من مصالح قُطرية فقط ما هو إلا عُش هش لا يصمد أمام ريح عاتية. وهو ما بثه الرئيس الصربي بالحرف، والذي اعتبر أن الاتحاد الأوروبي وهم، وقد غسلت الدول الكبرى أيديها من مساعدة صربيا في التصدي للوباء على أرضها، مما استدعى مد الجسور بين الصين وصربيا لمدهم بالمعونة الطبية، وهو ما يؤكد أن العالم مقبل على نظام جديد من التحالفات السياسة والاقتصادية لا مناص، سيكون في طليعتها تعميق العلاقات بين جمهورية الصين والعديد من الدول الأوروبية على حساب ارتباطات هذه الدولة المبرمجة على التغريد ضمن سرب السياسية الأمريكية، والذي سيؤدي بالضرورة إلى أن تسريع وتيرة تبوَّء بكين المرتبة الأولى ما بين اقتصاديات العالم كله.
ولكن ما معنى أن تصبح هي الرائدة لاقتصاديات العالم؟ وقِبْلَةً للدول الفقيرة والنامية؟ معنى ذلك أن دفعاً جديداً لمشروع الحزام والطريق سيكون مُتاحاً في المدى القريب المنظور، حيث أن هدف المشروع هو تأسيس علاقات ما بين الدولة على أساس معادلة (رابح – رابح)، أي أن كلا الطرفين سيتعاملان كَنِدَّين، ولن يكون معيار القوة العسكرية هو بيضة القبّان في تلك العلاقة. كما سيكون من شأنه أيضاً تعزيز فرص نقل التجربة الصينية الاقتصادية وآلية الحكم المركزية المتطورة التي انتهجتها في تحجيم فيروس كورونا في البلاد إلى البلدان الأخرى بشكل سلس وطبيعي يندرج ضمن إطار التعاون المنصوص عليه في المشروع إذ ستكون لها أولية في ذلك.
إن قيادة الصين للعالم اقتصادياً هي على مرمى عصا من نهاية هذا العام، والذي سيشهد في خاتمته استعراض كشفٍ لحساب الخسائر التي تكبدها الاقتصاد العالمي ككل، وتباطؤاً للنمو في مجمل البلدان، والتي ستخرج منها جمهورية الصين الشعبية منتصرة بجدارة، خاصة في ظل انخفاض سعر برميل النفط عالمياً إلى حدود العشرين دولاراً، والذي سينجم عنه وفرة مالية مآلها التسريع من دفع عجلة الاقتصاد الذين سيضحي في أوجه في الوقت الذي لم تكن اقتصاديات البلدات الراسمالية قد استفاقت بعد من صفعة أزمة كورونا المدوية.
*شاعر وكاتب أردني، وعضو قيادي متقدّم في الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء الصين – الأردن.