قد يعتقد كثيرون أن مصطلح “الرخاء المشترك” هو بمثابة زخرفة لفظية جميلة، لا سيما وأنّنا قد اعتدنا على هذا النوع من المفردات عند الحديث عن مستقبل الدول، إلا أنّ من يحاول التعمق في الرؤية الصينية لهذه المفردة، يدرك أنها عبارة عن فلسفة ورؤى تسعى الصين إلى تحقيقها على أرض الواقع.
يقوم مفهوم “الرخاء المشترك” أو “الرخاء المشترك على الطريقة الصينية” إن أمكن تسميته بهذا الاسم على جمع التناقضات الحالية القائمة في عالم اليوم، ومن ثم تحويل العلاقات المتناقضة إلى علاقات متكاملة، هو ذاته المبدأ الصيني الذي يحوّل المشكلة إلى فرصة، فالبعد الزمني بين المدى الطويل والمدى القصير، هو تكامل ما بين الاستراتيجيا والتكتيك، وكذلك العلاقة بين الثراء المادي والفكري هي علاقة بين الروح والجسد، وكذلك العلاقة بين التقدم الصناعي والبيئة، هي علاقة بين متطلبات العيش ومتطلبات الطبيعة، وهو ما سيحقّقه الرفاه المشترك، وبهذا فإنّ هذا الرفاه لن يكون ثراء ماديا فقط، ولن يكون لطرف على حساب الآخر، بل هو توازن قوى بين متغيرات باتت تؤثّر في يومنا هذا أكثر مما سبق، فالمشكلات التي تواجه العالم اليوم ليست مشاكل تقليدية، وبالتالي لا يمكن حلّها بالطرق التقليدية.
وبالانتقال من الفلسفة إلى الفيزياء، وتحقيقا للتكامل ما بين المفهوم والمادة، فإنّه من الممكن تجسيد مفهوم “الرخاء المشترك” على الطريقة الصينية، بمنحوتات تمثّل حالة فيزيائية، الأمر الذي يحمل في طياته إشارة إلى أن هذه الرؤى قابلة للتحقيق، فعندما يتم تشبيه حالة الاستقرار الاجتماعي التي تهدف إليها فكرة الرخاء المشترك بحبة “الزيتون”، والتي تعد الأكثر استقرار من الناحية الفيزيائية، وحتى اقتصاديا فإنّ تمثيل الاستقرار الاجتماعي بثمرة “الزيتون” يعني وجود قطبين اثنين: الأول يمثّل قلّة من الفقراء، والثاني يمثّل قلة من الأغنياء، وما بينهما هو طبقة وسطى كلما ازداد حجمها كلما ازداد الاستقرار المجتمعي. وأما عندما يتم تشبيه الإنسان والطبيعة بالجبلين، ولكلّ جبل أهميته ومكانته التي يجب الحفاظ عليها، فهو ما يشير إلى الإعلاء من أهمية التكامل بين الفرد والطبيعة المحيطة. فدائما وعلى الطريقة الصينية “الأفعال أعلى صوتا من الكلام مرتفع الصوت”، وهو ما يؤكد ضرورة رسم ما يُقال من أفكار.
بين الماضي والحاضر
في عام 2002 كتب أستاذ الاقتصاد “لوه تشونغ مين” ما يلي:”لا يمكن أن تنعم أمة بحضارة حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا عندما تمتلك ثقافة حديثة متقدمة، تقود الحياة الاجتماعية نحو التقدم والازدهار. فعصور التقدم والازدهار العظيمة إنما تبنى على الأفكار العظيمة، في حين أن مبادئ المصالح المادية بإمكانها فقط تحقيق تنمية اجتماعية غير منظمة، تكون عرضة لخلق الفساد والأزمات التي تهدد المجتمع، كما أنّ الدور الذي يلعبه الواقع المادي في حياتنا، هو فقط مجرد دور سطحي قصير الأمد، يقف عند الأمور الظاهرية” قد يعتقد من يقرأ هذه العبارات أنها عبارة عن مفاهيم فلسفية من الممكن قراءتها في أي كتاب. ولكن من يتوقف قليلا ويربط الماضي بالحاضر يعرف أنّ الصين حقّقت تلك الفلسفة، وهو ما أهّلها إلى طرح مفاهيم جديدة بعد مرور حوالي 20 عاما والتي منها مجتمع “الرخاء المشترك”.
فبعد مرور عشرين عاما، ذكر تقرير المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني بوضوح: “الرخاء المشترك هو المطلب الأساسي للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وهو أيضًا عملية تاريخية طويلة المدى”. بربط بسيط بين تلك المقولتين يمكن الاستتنتاج أنّ الصين تبني الفكرة منطلقة من الفلسفة، إلا أنها لا تلبث أن تحوّلها إلى واقع.
المسارات السبعة
تتجسّد فكرة الرخاء المشترك عبر المرور بسبع مسارات ألا وهي : التركيز على إنشاء اقتصاد عالي الجودة مع التركيز على التوزيع العادل للثروة، إقامة خدمات اجتماعية عالية الجودة والتشارك بها عبر دورة حياة اجتماعية تلبي حاجات مختلف الشرائح العمرية، التركيز على البنى التحتية الناعمة مثل الخدمات الطبية والثقافية، العمل على استمرار التنمية الريفية لتضييق الفجوة بين الريف والمدينة، بحيث يحيا الفلاح الصيني حياة أفضل، ربط التنمية المادية بالتنمية الفكرية، وهو ما تعبر عنه الصين بضرورة تنمية الفكر والجيب، تحقيق الانسجام بين الإنسان والطبيعة وذلك من خلال خلق بيئة صديقة، بناء الحوكمة الرقمية ومجتمعات المدن الذكية.
نموذج “نينبو” في “زينجيانغ”
إنّ كيفية تحقيق الرخاء المشترك ليست مشكلة تواجه الصين فحسب، ولكنها أيضًا مشكلة صعبة على العالم بأسره أن يحلّها، فالازدهار الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي في عالم اليوم هو حالة غير ثابتة، بل تخضع لسلسة من عمليات الصعود والهبوط الديناميكي، فلا يمكن لأي مجتمع أن يظل غنيًا إلى الأبد، ودرجة الثروة تتغير مع الظروف الاقتصادية. لذلك، يجب أن يكون الرخاء المشترك تنمية شاملة ومفتوحة.
كخطوة في طريق الرخاء المشترك، تم اقتراح مدينة “نينغبو” في مقاطعة “زينجيانغ” كنموذج تجريبي لإقامة تنمية عالية الجودة، لبناء مدينة رائدة تمثّل مفهوم الازدهار المشترك، وبالفعل تطورت مدينة “نينغبو” من ميناء تجاري صغير إلى مدينة ساحلية حديثة، وتخلّصت من مشاكل التنمية غير المتوازنة، وبنت علاقات تكاملية بين الأزواج الستة: الحكومة والسوق، والمؤسسات المملوكة للدولة والمؤسسات الخاصة، ورأس المال المحلي ورأس المال الأجنبي، والمؤسسات الكبيرة والشركات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر، والصناعات التحويلية والخدمات، والصناعة والزراعة.
خصوصية الصين في الطريق إلى الرخاء المشترك
بات معروفا لدى كثيرين أنّ الصين تتمتّع بكثافة سكانية كبيرة، ففي تقرير “المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني” ورد ما يلي: “التحديث على النمط الصيني هو تحديث مع عدد ضخم من السكان”. وكذلك تم التطرّق لهذا الأمر منذ “المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني”، وقد وضعت اللجنة المركزية للحزب آنذاك مهمة جوهرية ألا وهي تحقيق التنمية الشاملة في ظل هذا العدد الكبير من السكان. فوفقا لما جاء: “لقد ربحنا أكبر معركة ضد الفقر في تاريخ البشرية، وحللنا تاريخيًا مشكلة الفقر المدقع، وأكملنا المهمة التاريخية المتمثلة في بناء مجتمع مزدهر باعتدال من جميع النواحي”.
وقد كان القرار الشامل على مستوى الصين هو الجمع ما بين ضغط الزمان والمكان مع استمرار عملية التنمية، وتحديث التجمعات السكانية الضخمة، ووفقا للحكمة الصينية، والتي تحوّل التحدي إلى فرصة، فإنه لم يتم اعتبار هذا العدد الهائل من السكان بمثابة ضغط بل تم الالتزام بالنهج الذي يركّز على الناس وتحسين أحوالهم الاقتصادية، وبحسب ما جاء في أحد الوثائق الصينية، فإنّ الهدف الأساسي هو جعل الناس يتوقون إلى حياة أفضل، وهو ما يشير إلى أهمية التحفيز، في جعل الناس يعملون بشكل أكبر ليصلوا إلى مستوى حياتي أفضل، وذلك من خلال وضع خطط شاملة لتوزيع الدخل، والتوظيف، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، والتعليم، والإسكان.
وأما الهدف الرئيسي الآخر هو جعل فئة الدخل المتوسط تتجاوز 800 مليون بحلول عام 2035، خاصة وأنّ توسيع فئة الدخل المتوسط مطلبًا حتميًا للحفاظ على الانسجام الاجتماعي والاستقرار الوطني على المدى الطويل، وهو مطلب أساسي لتقدم أكثر وضوحًا وموضوعية أقوى في تعزيز الرخاء المشترك. لا سيما وأنه وبالنظر إلى مختلف دول العالم، فإنّ معظم تلك البلدان تعاني من الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، والانقسام الاجتماعي، ولذلك يجب زيادة نسبة الطبقة الوسطى، فهذا الأمر يهدف بشكل أو بآخر إلى زيادة القوة الشرائية، وهو ما يعزز الإنتاج وقدرة السوق المحلية.
هي أفكار ورؤى تهدف إلى تحقيق “الرخاء المشترك” تمهيدا للوصول إلى مجتمع أكثر استقرار، ومن ينظر إلى التجربة الصينية في القضاء على الفقر المدقع، وتنمية الأرياف، يدرك تماما أن ما سبق ليس مجرد عبارات وجمل، بل هو أفكار ستحقق عاما بعد عام.
*المصدر: سي جي تي إن العربية.
(ملاحظة المحرر: يعكس هذا المقال وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة رأي قناة CGTN العربية.)