خاص بشبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
أ.م. أحمد موسى نصار
في الرابع عشر من مايو عام ٢٠١٨، انطلقت طائرة مدنية لشركة الطيران الصينية (سيتشوان) في رحلة اعتيادية داخلية حملت رقم ٨٦٣٣ من مدينة تشونغ تشينغ الصينية متجهة الى مدينة لاسا بمقاطعة التبت وعلى متنها ١١٩ راكب بالإضافة الى ٩ من افراد الطاقم، وعلى ارتفاع ٣٠ الف قدم حدث امر لا يمكن تصوره او تصديقه، حيث انفصل الزجاج الأمامي للطائرة المقابل لمقصورة الكابتن نتيجة انخفاض الضغط المفاجئ، مما تسبب بتعطل عمل احد المحركات، وانخفاض درجة الحرارة في المقصورة الى ٤٠ درجة تحت الصفر، وتعطل الملاحة الجوية التلقائية وانقطاع الاتصالات بين الطائرة والخدمات الأرضية، ودخلت بعدها الطائرة مجبرة الى عاصفة جوية قوية خلال محاولة كابتن الطائرة متابعة الرحلة بعد ان أصيب مساعده إصابات بليغة نتيجة خروج نصف جسده من هيكل الطائرة بعد انفصال الزجاج الأمامي، الأمر الذي كان سيؤدي لوفاته لولا حزام الأمان الذي كان يربطه، ونتاج ذلك انحدرت الطائرة في مسارها يميناً ويساراً وصعوداً وهبوطاً أكثر من مرة، وعمت الفوضى بين الركاب الذين ايقنوا انهم سيلاقون حتفهم بعد ان كسر الباب الفاصل بين مقصورة الكابتن وصالة الركاب الرئيسية، وانخفض مستوى الاوكسجين هناك الى الحد الأدنى مما دفع الركاب جميعهم الى وضع اقنعة الاوكسجين لمدة تزيد عن ثلثي مسار الرحلة، الأمر الذي هدد مخزون الاوكسجين الاحتياطي في الطائرة واوشك على النفاذ.
في خضم هذه المخاطرة الكبيرة، قاد كابتن الطائرة طائرته بجسد شبه متجمد حيث كان المساعد الثاني له يقوم بفرك جسده في محاوله لتدفئته، واتخذ قرار شخصي منه بالنزول بالطائرة الى ارتفاع ٨ الاف قدم ليحلق بين جبال التبت للوصول الى اقرب مطار يستطيع الهبوط الاضطراري فيه وهو مطار تشنغدو شوانغليو، وحسب شهود الحادثة ان اجنحة الطائرة كانت تقترب من سفح الجبال بمسافة لا تتعدى الأمتار المعدودة، كما انه لم يقم بالالتفاف حول العاصفة الممطرة بل اخترقها بطائرته للوصول بأقصى سرعة للمطار القريب، وعندما شاهد الركاب هذه التصرفات سادت حالة من الفوضى الأكبر شكاً منهم ان الكابتن يتعمد ايصالهم للموت، وتهجم احد الركاب الغاضبين على مضيفة وطرحها ارضاً عندما كانت تحاول منعه من الوصول للكابتن، وعندما رصدت الرادات القريبة مسار الطائرة المدنية الغير معتاد في هذه المنطقة من البلاد، أرسلت على الفور خمس طائرات حربية للتحليق بالقرب منها، وجيشت الخدمات الأرضية خدماتها الاسعافية والاطفائية في كل المطارات القريبة.
العجيب في الحادثة ان الطائرة وصلت بسلام الى مطار الهبوط الاضطراري، ولم يصب احد في الحادث سوى مساعد الطيار، وعند نزول الركاب من الطائرة بعد هذا الرعب الحقيقي الذي عاشوه رفضوا ان يدخلوا الى المطار قبل ان يقابلوا الكابتن ومساعديه ويشكروهم، وما كان من طاقم الطائرة الا ان خرج وانحنى امام الركاب معتذراً عن الحادث، وبعدها حصل الكابتن على جائزة مالية قدرها ٥ ملايين يوان (ما يقارب ٧٨٠ الف دولار)، وزاد الاقبال على شركة الطيران سيتشوان بالمقارنة مع الشركات الأخرى!
في مجال الطيران المدني، تقدر أعداد الصينيين الذين يتنقلون يومياً عبر الطائرات بنصف مليون شخص.. وفي غزة يقطن ما يقارب ٢ مليون شخص…! هؤلاء المليونين تعرضوا لعدوان (إسرائيلي) بدء في ١٠ مايو عام ٢٠٢١ على خلفية احداث حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وقد يستغرب البعض ربطنا حادثة الطائرة الصينية بأحداث قطاع غزة، إلا اننا لسنا بصدد تحليل الاحداث التي جرت او إعادة سردها، بل المقصود هنا تفنيد الصورة النمطية لأي نزاع ينشب بين الاحتلال (الإسرائيلي) والمقاومة الفلسطينية على وجه التحديد، فالكثير من الناس، سواء كان فلسطينياً او عربياً او اجنبياً، يتهم المقاومة بجر الشعب الفلسطيني الى آتون الحرب والصراعات والدمار، ويحملها المسؤولية عن الضحايا والخسائر في كل مواجهة، وينسى هؤلاء عقيدة المحتل الملازمة له في التدمير والقتل والترويع، وان هدفه الأساسي الدائم تقويض اركان أي مشروع فلسطيني ممكن ان يقام، سواء كان مشروع تحرري او حتى تنموي اقتصادي، فالمواجهة الأخيرة كان البارز فيها مهاجمة المباني السكنية والتجارية من أبراج ومحلات في قطاع غزة، محققاُ لنفسه وهم الانتصار او الإنجازات الواهية، وتبقى الفكرة السائدة عند البعض ان المتسبب بذلك هي المقاومة الفلسطينية!
بطبيعة الحال، فان غزة تكبدت خسائر كبيرة في المواجهة الأخيرة، كانت في مقدمتها الخسارة البشرية للشهداء والجرحى، وكذلك الخسائر الاقتصادية بعد تدمير جزء كبير من البنى التحتية والمرافق الحيوية، الا انه وفي المقابل كبدت غزة الاحتلال خسائر كبيرة أيضاً، كان في مقدمتها الهزيمة المعنوية لنظرية الجيش الذي لا يقهر، وضاعفت بمقاومتها الإحساس العام بإمكانية التحرير والتأثير، تحرير الأرض من الاحتلال والتأثير الفعلي في الأوساط العالمية، فبجانب المقاومة الميدانية قاد الفلسطينيون في جميع انحاء العالم معركة إعلامية حقيقية كشفت وجه الاحتلال البغيض بهجومه على منازل المواطنين الآمنين، وغيرت من الحالة التي قد تكون سادت في المواجهات السابقة من تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الخسائر، مما اكسب غزة وشعبها ومقاومتها تعاطف الملايين، واوجد كابتن جدير بالثقة لقيادة طائرة المواجهة هتفت له الحشود داخل وخارج فلسطين، وتعالت الأصوات التي تنادي بضرورة نصرة غزة وفلسطين في معركتها المفتوحة مع الاحتلال (الإسرائيلي)، وأعطت الايمان الوثيق بضرورة إعطاء فلسطين حقها في التحرر وإقامة دولتها المستقلة.
ان المواجهة الأخيرة التي اشتعلت في غزة لم تكن المواجهة الأولى من نوعها، فطالما غزة موجودة فان القتال والمعركة والمقاومة موجودة، فمنذ الانتفاضة الأولى ثم الثانية ومروراً بأحداث المسجد الأقصى وحروب ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ وليس انتهاءً بحرب ٢٠٢١ كانت غزة ولا زالت عنوان للكفاح والتأكيد على ثوابت الصراع الفلسطيني المقدس لنيل حقوقه، وفي كل مرة يزداد ايمان الشعب الفلسطيني بقرب الحصول على الحرية، ومع ازدياد حدة التحديات يزداد اليقين بدنو اجل الاحتلال، ومع تعاظم التضحيات تتعاظم وتقترب النتائج، وكلما اشتد سواد الليل قلت ساعاته، حتى يأتي الوقت الذي تحط فيه طائرة الشعب الفلسطيني آمنة مطمئنة على مدارج الحرية والعدالة الإنسانية.
قد تشوب طائرة الشعب الفلسطيني المتجهة الى الحرية شوائب بحاجة للصيانة، فالانقسام الداخلي اكبر اعطال هذه الطائرة، وقد تبدو سرعة هذه الطائرة بطيئة، فالشعب الفلسطيني عانى من سنين طوال من الظلم والحرمان من ابسط مقومات الحياة، الا اننا لا نستطيع ان نغمض اعيننا عن حقيقة ان هذه الطائرة تطير، وفي الاتجاه الصحيح، تطير بمساعدة ثبات ركابها، وعزيمتهم على الوصول، وتطير برؤية قيادتها في كل الميادين السياسية والشعبية والعسكرية، وقد تدخل احياناً في عواصف من الرياح العاتية التي تخلخل توازنها، الا انها ما تلبث ان تأخذ مكانها الصحيح في قلوب شعبها والشعوب الحرة في كل مكان، هذه الطائرة قد تحتاج الى الإصلاح، ولكن إصلاحها لن يأتي الا بسواعد ابناءها وتكاتفهم في كل المجالات، ولن يكون من هذه الطائرة الا ان تصطحب ركابها الى الوجهة المنشودة على أراضي دولته يوماً ما.
ان الشعب الفلسطيني لم يبخل يوماً على مقدساته بالدم والروح والمال والوقت، ولن يأتي اليوم الذي يتردد فيه بالتضحية مراراً وتكراراً ان انتهكت مقدساته وكرامته، ولن تجد من يتخلى عن الثوابت مهما وجدت من أصوات تشكك في ذلك، فلن يكون كابتن طائرتنا الا حكيماً في ادارته، ولن يكون ركاب طائرته الا أناس مؤمنين بعظم التضحية وحكمة قائد طائرتهم، ولن يطول الزمن حتى ينال الجميع شرف النصر، وان كان ركاب الطائرة ٨٦٣٣ هم من شكروا قائدهم على ايصالهم بأمان، فعلى القيادة الفلسطينية مجتمعة ان تشكر كل الشعب الفلسطيني، في القدس والضفة الغربية وغزة والداخل المحتل، على عظيم تضحياتهم، وصدق ثباتهم، وقوة عزيمتهم، وسمو امنياتهم، وعميق ايمانهم بأن النصر صبر ساعة.
أ.م. احمد موسى نصار
بكين – 27.05.2021
شكرا لكاتب المقالة الجميلة أ.م احمد موسى نصار
ربط جميل ومعنى اجمل لمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني