شبكة طريق الحرير الصيني الاخبارية/
الأنباط/
بقلم: الأكاديمي مروان سوداح
قرأت الكثير منذ صِغري عن عَالَم و “عِلْم المِصريَّات” التي تستهويني، فهي تتحدث عن عراقة مِصر القديمة ومِصرنا الحالية الشقيقة الحبيبة، التي حفِظت القديم بكل تجلياته الحضارية، وأبقته للتاريخ والأجيال المُقبلة ولعَالَم العُلوم والإنسان. لأول وَهْلة، يَعتقد القارئ العادي أن عِلْم المِصريَّات يتصل بالسحر والتواصل مع أرواح الفراعنة وما إلى ذلك من خُرافات، وبأنه خاص بالمِصريين وحدهم، ومؤسساتهم وعُلمائهم، كونه يَحمل اسم مِصر. لكن في الحقيقة هو عِلمٌ “خاص بكل مَن يَدرس هذا العِلْم ويبحث فيه عِلميًا”.
في الواقع العَملي والتاريخي، يُعتبر عِلْم المِصريَّات أحد العُلوم الدولية، ويُساهم فيه بحثًا ومتابعةً عُلماء ومتخصِصُون من عشرات عشرات البلدان، وتقوم عليه مَعَاهِد ومَراكز بحثية يَتَكَاثَر عددها سنة بعد أخرى. وتُتَرجم “المِصريَّات” إلى العديدِ من اللُغات الرئيسية والوَطنية، وهنالك أمْصَار كثيرة تعمل على ترجمة ما يَختص به وبأبحاث عُلماء المِصريَّات إلى لغاتها، ما يؤكد على أهميته الكونية الكُبرى. وباختصار، يُعرَّف هذا العِلْم بأنه “أحد فروع عِلْم الآثار، وهو عِلْم يَختص بدراسةِ تاريخ مِصر القَديمة، ولُغَتُها، وآدَابُها، وديَانَاتُها، وفُنُونَها.
وتُعدّ الحضارة المِصريَّة مِن أقدم حَضارات البشرية، ولهذا تتهافت الدول على مَعرفة أسرارها العِلميِّة والاستفادة منها. يُشَارُ في المَراجع، إلى أن عِدة مِئات مِن العُلماء والمُتخَصِصِين في الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، ودول في شرق وغرب أوروبا، واليابان، وحتى دول في أمريكا الجنوبية، يهتمون كثيرًا بالمِصريَّات وبالتحف المِصرية القديمة ومتابعتها عَن كَثب، وبالنقود والنقوش التي أبدعتها أجيال المِصريين منذ فجر الحضارة المِصرية، وأشياء أخرى، ضمنها أدوات هؤلاء المِصريين الأقدمين من البرونز، والحلي، وتطبيقات الفنون المِصرية القديمة. وهنالك دول أخرى تَبتَعث الكثير من عُلمائها إلى مِصر، للمشاركة إلى جانب زملائهم المِصريين أصحاب العَراقة في عُمق الأبحاث والدراسات الخاصة بالمِصريَّات، وفي تَرميم الآثار والعَمَائر الفرعونية في بلاد النوبة، ومع ذلك يُعتَبر هذا العِلم متاحًا لعددٍ محدود من ذوي الاختصاص، وهؤلاء لا يمكن لهم أن يوفّروا ثروة مالية، ولا مجدًا وشهرة، ولا أن يقتنصوا يومًا للراحة، فالمِصريَّات تتطلب عملًا متواصلًا، وتفكيرًا لا يتوقف في ترتيب أولويات البحث ومواقعه الدقيقة، وهو عمل غير سهل البتة، إذ يتطلب دقّة عِلمية،
ومعرفة عميقة بتاريخ أجدادنا المِصريين ومواقع أعمالهم الرئيسية، التي يمكن العثور فيها على صفحات تاريخية جديدة ومَجيدة، تُعتبر بلا شك من الكنوز التي لا تقدّر بأي ثمن مادي، إذ أن من شأن العَمل في الوُرشِ الفرعونية وتلك المُنتشرة هنا وهناك اكتساب عملية تعليمية وبحثية ذات قيمة كُبرى. ففي ورش الحَفريات يتمرّس العَالِم الجديد، ويمكن له العثور في باطن الأرض على قطعٍ حجرية وفخارية نَحَتَهَا مواطن فرعوني أو إنسان أقدم منه زمنًا، وأحجارٍ كريمة، وخزفياتِ، وغيرها من شواهد مادية تدوّن الأسفارال جديدة في تاريخ مِصر الأصيلة.
يَقول الكاتب الفرنسي “سيرج سونّرون”، في كتابهِ “عِلْم المِصريَّات”، الذي صَدَرَ في أواخر ستينيات، أو أوائل سبعينيات القرن العشرين، وترجمهُ للعربية الشهير “إلياس الحايك”، وسَارعت “المَكتبة البولسية – جونيه” إلى نشره، ليَصدُر في عام 1973، بأن التكلم عن عِلْم المِصريَّات ليس هو ضرب من ضروب السحر أو التنبؤ، ولهذا فإن التعاون مع “بلاد النوبة” كان رائعًا ومُثمِرًا في ذلك العَهد، وبأنه من الضروري “التدخل السريع” لإنقاذ مختلف المَباني القديمة، برغم أن هذا العمل مُكلِف مَاليًا. ويَخلُص مُؤلف الِكتاب إلى التأكيد على لزوم الإحاطة بكل ما يَمُتّ بِصِلة للفراعنة وحضارتهم وأرض مصر العريقة التي تحتفظ في باطنها بالكثير من الأسرار، وأهمية تطوير الإذاعة والإعلام للتعريف بِعلِم “المِصريَّات” الذي هو عِلْمٌ إنساني، يُثير اهتمامًا عالميًا، ولا يَعود لعددٍ قليلٍ من الناس، بينما الثقافة الفرعونية هي مِيراث عَالمي، وأنه لمِن اللازم حَث الإنسانية قاطبة على أن تتناول هذا العِلم وتقدره حق قدره.
ولهذا، ولتوسيع المَعرفة والإدراك العِلمي بـِ “المِصرّيات”، يَجدر بالعُلماء والمتخصِصِين فيه، أن يكتبوا ويؤلّفوا لغير ذواتهم، وأن يُتيحوا لغيرهم أن يتعرفوا على اكتشافاتهم واستنتاجاتهم، فعَالَم العصور الفرعونية المُنقرض غني المضامين، وعلى الإنسانية والحضارة التمتع به والاستفادة منه، وقد تُفتح أمامنا العديد من كوى الضوء والنور لاكتشاف حقائق وثروات جديدة في عَالمِ وعُلومِ المِصريّات، تُثير رَغبَةَ أعدادٍ جديدةٍ من الناس للتخَصّصِ فيها وكشف الجديد من مكنوناتها وثَراء الحَضارة المِصرية، وتُميط اللِثام الدَّهري عن ازْدِهَار الفَراعِنة، وتطوُّرِهم المُذهل، وتَمَدُّنهم المُتفرّد، ورُقِيِّ نظامهم، وتَقَدُّمهم المتواصل الذي لَم يَعرف التَوقّف في فَوْرَاتِه وتخليقاته المُتلاحِقة.