بقلم هيثم محمود السيد،
مدير وحدة الدراسات الصينية بمركز البحوث والتواصل المعرفي
بدأت سياسة الإصلاح والانفتاح في عام 1978م، حيث أسهمت هذه السياسة في تبني الإصلاحات الداخلية والانفتاح على العالم الخارجي، وشملت هذه المرحلة تحسينات في الجوانب الاقتصادية مع تبني الصين لمبدأ “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” والتي تعرّف بأنها تطبيق لنظريات الاشتراكية الماركسية اللينينية والأفكار الماوية بما يتلاءم مع الظروف الموضوعية للصين خلال فترات زمنية معينة، واستمر التحول الصيني على أرض الواقع بإنشاء مدن اقتصادية خاصة كمدينة شنجن لجذب الاستثمارات الأجنبية وتهيئة البيئة المناسبة لنقل خطوط الإنتاج للبر الرئيسي الصيني.
في فترة وجيزة، تمكنت الصين من نقل خطوط الإنتاج إلى البر الرئيسي الصيني بما تمتلكه من الأيدي العاملة الماهرة الرخيصة، ومن مزايا جغرافية تجعلها قادرة على أن تكون مركزاً تجارياً عالمياً، فهي بوابة الشرق الأقصى، حيث تتشارك الصين في حدودها البرية مع 14 دولة، وتمتلك موانئ مفتوحة على أغلب وجهات العالم.
هذه المقومات الجغرافية والاقتصادية جعلت من الصين قبلةً للاستثمارات العالمية، فالكثير من الشركات العالمية نقلت خطوط إنتاجها إلى البر الرئيسي الصيني لكسب أكبر سوق استهلاكية عالمياً، حيث يقدر عدد السكان في الصين بـ مليار وأربعمائة مليون نسمة تنساب في أطيافها أكبر (طبقة متوسطة الدخل) في العالم.
وعلى الجانب الآخر، دعمت الحكومة المركزية الشركات المحلية، وذلك بتمكينها داخلياً من خلال نقل التقنية إلى الداخل الصيني، فأخرج لنا هذا التوافق بين الشركات الصينية والحكومة الصينية شركات عملاقة كان لها الفضل في تطور الصناعات العالمية وجودتها، وصنعت التنافس العالمي في عدة مجالات، وهذا كله يصب في مصلحة المستهلك النهائي.
أما على الجانب الدبلوماسي، فلم يكن لدى الصينين جينات استعمارية، وهم في سعي دائم وحثيث إلى إحلال السِّلم العالمي، ولعل سور الصين العظيم وبناءه لحماية الأمة الصينية من الغزو الخارجي خيرُ مؤشر على هذا التوجه.
مع بداية القرن الحادي والعشرين التفتت الصين بشكل أكبر إلى التنمية ودفعت شعبها لهذا الاتجاه، وخلال العقديين الماضيين لم تدخل الصين أي صراع عسكري مع قوى أخرى، وكان أبرز أهداف الصين في الأعوام الماضية هو جودة الحياة لشعبها.
ولعل ما لفت العالم إلى التجربة الصينية الفريدة هو الجانب الاقتصادي منها، حيث تحقق الصين نمواً سنوياً بنسبة 9% للناتج القومي المحلي، وهذا ما يعد معجزتاً في عالم الاقتصاد، نقل الصين لتكون حالياً ثاني أكبر اقتصادات العالم، والشريك التجاري الأول لأغلب دول العالم.
هذه الإنجازات الاقتصادية انعكست بشكل واضح على الشعب الصيني، إذ أعلنت الحكومة المركزية تحقيق معجزة اقتصادية في عام 2020م، تمثلت في القضاء على الفقر وإنقاذ أكثر من 98.9 مليون شخص من براثن الفقر المدقع، وكان هذا الهدف هاجساً بدأ يتبلور لدى المسؤولين الصينين مع بداية القرن الحالي.
وفي عام الجائحة 2020م أيضاً، قامت الصين بجهود عظيمة، إذ استطاعت الصين وفي وقت وجيز من القضاءَ على الجائحة في أراضيها، وقد منح ذلك الأمل لباقي الشعوب، فاستلهمت تجربة الصين الفريدة في القضاء على الجائحة.
ولم يتوقف دور الصين في القضاء على الجائحة داخل أراضيها فقط، بل امتد دورها لدعم الدول الأخرى من خلال إرسال المساعدات الطبية كالكمامات وأجهزة الكشف المبكر عن الفيروس وأجهزت التنفس الصناعي، وأرسلت الحكومة الصينية الفرق الصينية ذات الخبرة إلى الدول المنكوبة الأخرى للمساعدة في القضاء على الجائحة.
وهذا ليس الملحظ الدبلوماسي الوحيد الذي حاول الصينيون مواكبة دورهم به، بل يمكن أن ننظر إلى حديث سعادة الرئيس الصيني شي جينبينغ (الذي أكد به تبني الصين لمبدأ المنفعة العالمية) من هذا الوجه أيضاً، ومن ذلك كلمته في افتتاح الدورة الـ 73 لجمعية الصحة العالمية في مايو، حيث قال الرئيس شي: إن الصين ستجعل لقاحها المضاد لكوفيد-19 منفعة عامة عالمية عند توافره، ما سيساهم في إتاحة اللقاح والقدرة على تحمل تكاليفه في البلدان النامية.
تبنت الصين هذا الاتجاه حقاً بأن تكون لقاحاتها منفعة عامةً عالمية، إذ أشركت الصين الدول النامية في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، ومع اعتماد اللقاحات الصينية تسعى الصين لتوزيع لقاحاتها على 80 دولة و3 منظمات دولية، علاوةً على ذلك تسعى الصين للتوزيع العادل للقاحات، من خلال دعمها لمبادرة كوفاكس التي تقيمها منظمة الصحة العالمية وتشارك الصين في هذه المبادرة بلقاحين كأكبر الدول المشاركة في المبادرة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
ويمكن القول هنا إن الصين أثبتت واقعياً، أنها دولة مسؤولة وتسعى إلى التنمية العالمية، وتتعامل مع الشعوب الأخرى من منظور “المنفعة المتبادلة والفوز المشترك”، وهذا ما يحقق الاستفادة القصوى لجميع الأطراف.
خلاصة القول إن ما وصلت إليه الصين من معجزات اقتصادية واجتماعية وسياسية، يعد محفزاً للدول العربية لتحذو حذوها، خصوصاً مع تبني الصين هذه الإصلاحات بما يتوافق مع بيئتها ووفق تاريخها وخصائصها، دون الاستعانة بالنموذج الغربي غير المتوافق معها جملةً وتفصيلاً.
ومن المناسب هنا التطرق إلى حديث صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار 2018 عندما ذكر أن: “الدول العربية شهدت تطوراً كبيراً على مستوى اقتصادها في السنوات الماضية، والشرق الأوسط سيكون أوروبا الجديدة خلال 5 سنوات قادمة” وأضاف سموه “هذه حربي التي أقودها ولا أريد أن أفارق الحياة إلا وأنا أرى الشرق الأوسط مثل أوروبا”.
نعم هي معركة يصارع من أجلها هذا الجيل بأكمله، حيث أضحت الفجوة التنموية في العالم العربي النقطة الأساسية في بناء الاستقرار، ويحضرني هنا كلمة سعادة الرئيس السيد شي جين بينغ في جامعة الدول العربية 2016م، عندما قال: ” إن جميع الأسباب التي أدت إلى الاضطرابات والتوترات الحالية في الشرق الأوسط ترتبط في الأساس بالتنمية، وليس ثمة مفر من احتوائها إلا من باب التنمية في نهاية المطاف”.
لدى أغلب الدول العربية في وقتنا الحاضر رؤى تنموية تتمحور حول التنمية والاستقرار السياسي والقضاء على الفقر ونقل التقنية وتمكين الشباب وتمكين المرأة. والصين كما ذكرنا سلفا لها باع طويل في ذلك ولديها أيضا مبادرة الحزام والطريق والتي تدعم بشكل كبير هذا التوجه.
وأخيراً، من المتوقع تكامل العلاقات العربية الصينية، ويمكن الدفع في هذا الاتجاه من خلال منتدى التعاون العربي الصيني. وبصفتي باحثاً في مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض؛ لا يغيب عني التنويه بدور مراكز الفكر والبحوث والجامعات والمؤسسات الحكومية في تقريب وجهات النظر وخلق بيئة مناسبة للارتقاء الثقافي والفكري بين الدول العربية والصين.
بقلم هيثم محمود السيد، مدير وحدة الدراسات الصينية بمركز البحوث والتواصل المعرفي
ملاحظة المحرر: يعكس هذا المقال وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة رأي قناة CGTN العربية.