بقلم الكاتب والمحلل السياسي الليبي، منير البشير الساعدي
إن الصين الشعبية تمثل اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إن لم تكن الأولى، و خصوصا في هذه الفترة التي تعتبر الصين في أوج قوتها الاقتصادية بعد تعاملها الند بالند للولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر نفسها أكبر اقتصاد في العالم قبل أن تظهر الصين و تقلب الموازين. للسبب السالف الذكر فإن الدول العربية شعرت بالاطمئنان الاقتصادي في التعامل مع الصين الشعبية التي تنتهج السياسة التشاركية في العمل و الربح المشترك، على عكس السياسة الأمريكية التي تعمل على احتكار واستعمار سوق العمل. بدأت العلاقات الاقتصادية و السياسية تزداد أواصرها ترابطا بين الدول العربية و الصين الشعبية. فهي اليوم تمثل ركنا مهما من أركان العلاقات الدولية في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. وترجع أهمية تلك العلاقات إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
الأول: الصعود السلمي للصين بسرعة مذهلة منذ 1978؛ حيث بدأت سياسة الإصلاح والانفتاح بقيادة الزعيم الصيني الأسبق دنغ هسياوبنغ، الذي أطلق هذه السياسة التي حققت المعجزة، وحولتها من دولة تعاني من التخلف والمجاعات، إلى دولة حديثة متقدمة اقتصاديا وتجاريا وثقافيا وتكنولوجيا؛ بحيث أصبحت الدولة الثانية في العالم من حيث حجم الاقتصاد؛ بل يتوقع أن تكون الدولة الأولى في عام 2030.
الثاني: أن العرب شيدوا حضارة عظيمة بانطلاق الدعوة الإسلامية، ثم تراجعوا عندما تفرقوا شعوبا وقبائل، وعندما تخلفوا لعدم تطويرهم الاقتصاد التجاري إلى اقتصاد صناعي. ولذلك عندما تحولت التجارة العالمية إلى طريق رأس الرجاء الصالح تراجع الاقتصاد العربي، وتراجع الدور العربي في التجارة العالمية، وزاد الأمر سوءا عدم توفر الموارد الطبيعية، وبروز الظاهرة الاستعمارية وسيطرتها على المنطقة العربية، كما سيطرت على مناطق كثيرة أخرى. ثم جاء اكتشاف النفط ثم الغاز، وأيضا سعي العالم العربي للتقدم والنهوض، فتحول العالم العربي عامة ومنطقة الخليج العربي خاصة إلى نهوض اقتصادي وتجاري وعلمي، وأصبحت منطقة الخليج العربي محورا رئيسا من محاور الطاقة العالمية والاقتصاد في العالم، وطرق المواصلات التي تربطها بمناطق أخرى. وقد حققت منطقة الخليج العربي صعودا سلميا قريبا من الصعود الصيني.
الثالث: التغيرات في السياسة العالمية من الصناعة التقليدية لصناعة المعلومات والمعرفة، وبروز دور الطاقة في الاقتصاد العالمي، وتصاعد أهمية المنطقة العربية، وبروز ظاهرة العولمة نتيجة التداخل والترابط العالمي. ومن هنا استردت المنطقة العربية أهميتها، ولكنها لا تزال تواجه في هذه المرحلة تحديات أمنية واجتماعية أكبر خطورة. وهي تحديات واجهتها أيضا الصين منذ صعودها، ولا تزال تتعامل معها.
وبموازاة ذلك، تبرز بعض الأفكار والآليات التي تعزز الاتجاه إلى تطوير تلك العلاقات، ومنها:
نظرية المفكر الأكاديمي الأميركي صامويل هنتنغتون حول «صراع الحضارات»، التي أصبحت مرجعا أساسيا للفكر الاستعماري الجديد، مما أدى لتقوية العلاقات العربية – الصينية، ومزيد من التقارب بين المنطقتين والحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الصينية.
– طرحت الصين عدة نظريات فكرية واقتصادية وسياسية، منها نظرية التناغم الدولي (International Harmony) في عهد الرئيس السابق خوجنتاو، ثم نظريات ومبادرات الرئيس الحالي شي جينبينغ، لاستغلال الموارد الطبيعية في كثير من دول العالم، ومنها العربية والأفريقية لمصلحة الجميع، في إطار مفهوم الكسب للجميع (Win – Win Theory) ونظرية المصير المشترك، ونظرية ضرورة تعدد مراكز القوى الدولية، ونظرية التعاون السلمي، ومبادرة طريق الحرير البري والبحري، تحت عنوان «طريق واحد وحزام واحد»، لإحياء طريق الحرير القديم البري والبحري، للربط بين الصين والعالم من جديد، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا وثقافيا؛ حيث انتشرت مراكز «كونفوشيوس» في كثير من دول العالم وجامعاته.
كما طرحت الصين آليات للعمل المشترك، والتعاون المشترك، مثل منتدى التعاون الصيني – العربي، وبرامجه المتعددة، ودوراته المستمرة كل عامين؛ فضلا عن اتفاقيات ثنائية مع كل دولة عربية.
وأدت العوامل السابقة لمزيد من التقارب الصيني – العربي، لوجود مصالح وتحديات مشتركة.
إصدار القيادة الصينية في عهد شي جينبينغ لأول مرة وثيقة رسمية، تعبر عن سياسة الصين تجاه الدول العربية.
ومن تحليل نظرة الصين للعالم المعاصر، وخصوصا العالم العربي، وممارساتها السياسية والأمنية، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار العوامل التالية:
الأول: أن الصين تحولت إلى قوة كبرى وتتجه لتكون قوة عظمى، ومن ثم فإن بعض مصالحها تختلف عن اهتمامات ومصالح الدول العربية، ومن ذلك العلاقات مع كل من إيران وتركيا وإسرائيل، كدول مجاورة للمنطقة العربية، وهي دول ترتبط بمصالح مشتركة وعلاقات قوية مع الصين، التي لا تؤمن بسياسة معاداة أي دولة، ما عدا استثناءات تتعلق ببعض دول الجوار الصيني المباشر. ومن هنا، فإن من الضروري أن تدرك الدول العربية جميعا هذا المبدأ في العلاقات الدولية، وأيضا في علاقات الصين وسياستها بوجه خاص.
الثاني: أن الصين تعمل بسياسة التعاون والكسب المشترك، ولا تؤمن بسياسة التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، أو السعي لتغيير نظامها السياسي، أو طرح مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الثالث: وهو مستمد من التراث الصيني العريق، وهو مبدأ التجارة العالمية كأداة لتحقيق ثلاثة أهداف، هي: نهضة الصين، وتفاعلها مع العالم الخارجي بالأخذ والعطاء، والسعي لتحويل العالم إلى التعاون والسلام، بدلا من الصراع الدولي الذي كان ولا يزال محور العلاقات الدولية منذ عدة قرون.
من هنا برز الدور المستقبلي للصين، عندما استعادت ذاتيتها وحضارتها العريقة، وأحيت تراثها الفكري من منظور جديدـ ليخدم المستقبل، وليس للانكفاء على الماضي كما هو حادث في دول الشرق الأوسط المختلفة.
الرابع: تؤمن الصين بمبدأ التفاعل في العلاقات الدولية، بما في ذلك علاقاتها مع المنطقة العربية. فعلى سبيل المثال برز طريقا الحرير البري والبحري، اللذان ربطا الصين الجنوبية مع العالم العربي والحضارة الإسلامية برباط وثيق. ومع مبادرة طريق الحرير البحري وإنشاء بنك التنمية الآسيوي، وهو بنك ممول بنسبة كبيرة من الصين، ولمصلحة البنية الأساسية في الدول التي يمر بها الطريق، أصبحت الصين قوة بحرية.
وعن الاتجاهات الجديدة في التعاون العربي الصيني لن تكون هناك حدود لإمكانات تطور العلاقات الاقتصادية العربية الصينية، ويمكن أن تشمل كل المجالات، ونحن نرى الآن الكثير من خطوط التعاون في مواضيع عديدة، حتى تصل إلى الفضاء والأقمار الصناعية وبناء المعامل والتكنولوجية الزراعية، هناك الكثير من المشاريع الموجودة سابقا أو يمكن أن تبدأ مستقبلا.
كما أن كل هذا الأمر يؤدي إلى الحديث عن آفاق لا يمكن حصرها لإمكانيات التعاون، وهو حاجة حقيقية وفعليا لكلا الطرفين، فالدول العربية غنية وتعتبر سوقا استهلاكية كبيرة جدا، والصين مورد أساسي للكثير من المواد أو حتى البنى التحتية أو حتى التنقيب عن النفط والطاقة المتجددة.
كما أن هناك فرص يمكن أن تستغل بين الجانبين العربي والصيني، مدفوعا بالجائحة التي يواجهها العالم حاليا، الهدف منها النهوض بسرعة للحفاظ على تشغيل المحركات التجارية والاستثمارية في العلاقات بين الجانبين، لتجنب أي هزات اقتصادية قد تكون تداعياتها كبيرة على معيشة الناس.
لذلك أعتقد أنه من خلال مبادرة الحزام والطريق يمكن إفساح مجالات جديدة للتعاون، حيث أن هناك رغبة موجودة لدى الدول العربية لتنمية اقتصادها والحاجة إلى التعاون مع الصين في مجال الصحة بشكل كبير، والجانب الصيني أبدى استعداده في مرات عديدة لدفع بناء طريق الحرير الصحي مع الدول المشاركة.
كذلك بدأت تظهر في الأفق الجهود المبذولة من كلا الطرفين من أجل بناء طريق الحرير الرقمي، والذي يمكن أن يخلق المزيد من نقاط النمو الجديدة في الاقتصادات العربية و الاقتصاد الصيني، كما أنه يوفر دفع كبيرة للانتعاش، والعلاقات يمكن أن تنتقل إلى أفق أرحب من خلال تعزيز التعاون في المجالات المدفوعة بالفيروس، مثل التجارة الإلكترونية عبر الهاتف المحمول، والتي تتمتع بها الصين بخبرة كبيرة، وغيرها من المجالات الكثيرة التي لدى الصين قدرات كبيرة فيها.
خلاصة المقال أن العلاقات العربية الصينية آخذة في التطور للأفضل و التوسع للأشمل نتيجة سلوك الصين القائم على مبادئ الاحترام لسيادة الدول و عدم التدخل في شؤون الغير الداخلية، والذي يفسر مواقفها من الأزمات السورية أو اليمنية أو الليبية، ولن يتغير ما لم يتم التأثير مباشرة على مصالحها، وهي تعتمد على المبادئ العامة دون السياسات التطبيقية تجاه كثير من الأزمات الدولية، ونموذج ذلك الموقف الصيني من قضية فلسطين والقدس والجولان، كما أن هذا التطور في العلاقة ناجم من أفول نجم الولايات المتحدة كونه كان أكبر اقتصاد عالمي، قبل بروز اقتصاد التنين الصيني الذي بدأ يحلق فوق كل القارات على الأرض و في الفضاء.
*المصدر: منتدى التعاون الصيني العربي.