كإعلامي قضى عشرين سنة في العمل الصحافي في مختلف مجالاته المرئية والمسموعة والمكتوبة، كان لا بد من اختيار تخصص لتركيز الاهتمام عليه، وتقديم إضافة نوعية فيه، بدل البقاء مشتتاً بين مختلف القضايا التي تتفاعل في عالمنا المعاصر.
كان هذا القرار عام 2005، وبعد رحلة بحث طويلة استقر القرار على الاهتمام بالصين، الدولة الصاعدة، التي تصنع العجائب، والتي لا يوجد في عالمنا العربي إلا القليل من المهتمين بقضاياها المتشعبة، سواء ما يتعلق بالداخل الصيني، أو في يخص علاقات الصين مع العالم، وبالتحديد مع عالمنا العربي.
لم يكن القرار عشوائياً، وإنما يستند إلى اطلاع على التوجه الذي يسود العالم، واقتناع بأنه لا بد من ملاقاة الصين التي تنطلق في “مسيرة طويلة” نحو العالم، لتخرج من انطوائها، وتسلك طريق الإصلاح والانفتاح الحقيقي من أوسع أبوابه.
ونحن العرب نعاني كثيراً، من تجبّر القوى العالمية العظمى، ومن غياب المساعد والمتفهّم لقضايانا، ومن تحيّز المسؤولين العالميين ضد قضايانا، فجاء الانفتاح على الصين ليشكل طاقة أمل لنا بوجود قوة عالمية كبيرة يمكن نسج علاقات قوية معها تقوم على التفاهم والتعاون والمنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة، بدل العلاقات القائمة والتي تقوم على استعمارنا واستغلال خيراتنا وسلب أموالنا، وهي العلاقات السائدة مع دول العالم التي استعمرتنا واستعبدتنا طويلاً.
وانطلقت رحلة معرفة الصين منذ ذلك الحين، وعلى مدى خمس عشرة سنة حتى الآن، تعلمت الكثير عن هذه القارة العملاقة، بمساحتها وبسكانها وبتاريخها وبنهضتها التي تصنع مستقبلاً أفضل لها وللبشرية جمعاء. وبالرغم من كل هذا الاطلاع، أجد أنني ما زلت بعيداً عن المعرفة العميقة للصين، وأنني بحاجة إلى بذل الكثير من الجهود حتى يصبح من الممكن لي الادعاء بأنني تعرفت فعلاً على الصين الحقيقية.
لقد قرأت عشرات الكتب عن الصين، وأتابع أخبارها بشكل يومي، إن لم يكن لحظة بلحظة، وأنشأتُ موقعاً إلكترونياً ونشرة إلكترونية ووسائط تواصل عديدة، كلها تتعلق بهذا البلد العظيم، واخترت لهذا المشروع المعرفي اسماً يعكس المهمة التي يسعى لتحقيقها: الصين بعيون عربية. وأردت لهذا الاسم أن يشكل جسراً يربط بين الأمتين العريقتين، الأمة الصينية والأمة العربية. ومع وجود العديد من الأفكار للتوسع في هذا المشروع، فأنا أظن أنني حققت الكثير من الإنجازات، ولكنها تبقى إنجازات متواضعة أمام حجم الطموحات التي أضعها نصب عينيّ، وكذلك أمام ما هو مطلوب من جهود للنهوض أكثر فأكثر بالعلاقات بين الصين والدول العربية في مختلف المجالات.
أنا لا أدعي القدرة على تحقيق تطوير كبير في العلاقات بين الأمتين، نظراً لكوني فرداً واحداً، ولست مؤسسة رسمية أو جهة خاصة تملك الإمكانات اللازمة للدفع بهذه العلاقات إلى الأمام. ولكن ما أنا متأكد منه هو أنني أملك الإرادة والرغبة للقيام بأي شيء ممكن لتقديم شيء جديد يكون مفيداً لتطوير هذه الروابط بين شعوبنا وبلادنا.
وانطلاقاً من هذه الرغبة التي أملكها يسّرت لي الظروف بناء علاقات عميقة جداً مع الكثير من الأصدقاء الصينيين، سواء الموجودين في عالمنا العربي، كدبلوماسيين أو طلاب أو إعلاميين أو غير ذلك، أو أولئك الموجودين في الصين نفسها.
لقد زرت الصين حتى الآن عشر مرات، وفي كل مرة كنت أعود من الصين وأنا أملك المزيد من الأصدقاء، لا بل من الإخوة والأخوات الحقيقيين، وفي بعض الأحيان كنت أنسج علاقة أبوّة حقيقية مع بعض الأشخاص الذين صرت أعتبرهم كأبنائي وبناتي، وأتواصل معهم بشكل دائم، إن لم يكن بشكل يومي، بما يجعلني أحس نفسي أنني أعيش فعلاً في بيئة صينية حقيقية، أراعي فيها فرق التوقيت والزمان، وأحترم الأهواء والأذواق المختلفة، وأتفهّم تنوّع التفكير والثقافة.
وساهمت زياراتي المتعددة في بناء روحي المتعلقة بالصين، حيث تعرفت على مفردات حياة الشعب الصيني في مختلف أنحاء الصين، من الشمال، في بكين وينتشوان إلى أقصى الجنوب في هاينان وغويتشو، ومن الشرق في شانغهاي وهانغتشو ونانجينغ إلى الغرب في لانتشو ودونهوانغ، وصولاً إلى أقصى الغرب في يورومتشي وتوربان وكاشغر (كاشي)، وبعض هذه المدن زرتها عدة مرات وعشت مع أهلها وشبابها وعرفت طموحاتهم وأحلامهم ومشاريعهم والخطط الذين يساهمون في تطبيقها.
لقد شاهدت الصين كيف تُبنى كدولة عظمى، وفهمت كيف تمكنت خلال السنوات السبعين الماضية من بناء هذا الاقتصاد الضخم والمتنوع والمتطور، الذي تحوّل إلى الاقتصاد الثاني على مستوى العالم، كما أدركت الأسباب التي ستؤدي بهذا الاقتصاد لأن يصبح الاقتصاد الأول بلا منازع، ومهما وُضعت أمامه من عقبات.
ومن الاقتصاد إلى السياسة، قرأت بعمق المبادئ التي تطرحها القيادات الصينية المتعاقبة، ولا سيما الرئيس والأمين العام الحالي السيد شي جينبينغ، والتي تعمل الصين الجديدة على تحقيقها، وهي تتركز على بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية، وعلى بناء علاقات دولية تقوم على مبدأ “رابح ـ رابح” استناداً إلى المنفعة المتبادلة للجميع، مع ما يعنيه ذلك من استبعاد لسياسات الهيمنة والطغيان والأحادية واللعبة الصفرية، وهي السياسات التي خرّبت العالم وحوّلته إلى ميادين للتوتر والنزاع والحروب والدمار الذي يعيق عمليات التنمية ويضع عقبات كبرى أمام التطور البشري.
ومن أجل كل ذلك ازداد إيماني بأهمية تعاون أمتنا العربية مع الأمة الصينية لما في ذلك من مصلحة للطرفين بالدرجة الأولى، وبالتالي مصلحة العالم ككل.
ونحن في لبنان، هذا البلد الصغير، سواء من حيث المساحة أو من حيث عدد السكان، لسنا عاجزين عن لعب دور مهم في تعزيز العلاقات العربية الصينية، لأننا نملك الكثير من المقومات المميزة، سواء على المستوى الثقافي أو على المستوى الإعلامي، أو في إطار المعرفة الاقتصادية بكل أشكالها، ولا سيما في القطاع المالي والمصرفي، وفي كل هذه المجالات يمكن أن يلعب اللبنانيون دور”المساعد” في خلق علاقات عربية صينية أكثر قوة وعمقاً وفائدة للطرفين.
إن الاحتفال بالذكرى السبعين لقيام جمهورية الصين الشعبية يشكل مناسبة مهمة جداً للتأكيد على العظمة التي وصلت إليها الصين بعد كل هذه العقود من النضال في مختلف المجالات لبناء مجتمع قوي متناغم متطور خالٍ من الفقر وينظر إلى المستقبل بكل أمل وثقة، كما أنها فرصة للتأكيد على التزامي الشخصي بالعمل على بذل كل الجهود الممكنة لتعزيز أواصر الصداقة بين الصين والعرب، وبين الصين ولبنان بشكل خاص، وهي الرسالة التي نذرت نفسي لها، نظراً لمعرفتي بأهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به هذه العلاقات في تطوير عالمنا العربي، والفائدة التي تحققها للدولة الصديقة والعظيمة، الصين.
*مدير موقع الصين بعيون عربية ـ نائب رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتاب العرب أصدقاء (وحُلفاء) الصين