بقلم أحمد السيد النجار
عن/مجلة الوعي العربي
فجأة
وكأن هناك مايسترو رفع عصاه لبدء العزف، انطلقت جوقة هائلة تردد نشيد قتل الصين
لمسلمي “الإيجور” التركمان بعد إثارة واشنطون لها. والتحق بالنشيد أعداد
من ذوي الضمائر الحية والمحترمة الذين تأثروا بتلك الحملة، مثلما حدث بالضبط قبل
أربعة عقود في قضية أفغانستان وأنتج تنظيم القاعدة مفرخة الإرهابيين، فما هي القصة
بالضبط؟
الصين بلد عملاق يضم 56 قومية
منهم عدد من القوميات غالبيتها من المسلمين مثل الهوي (الخوي) والكازاخ والإيجور
والقرغيز. وقاعدة المواطنة هي الحاكمة في علاقة الدولة بأبناء تلك القوميات، أو
بمعنى أدق لا يوجد أي تمييز قائم على الأصل العرقي أو الديني فالدين شأن خاص بين
الفرد وربه وليس موضوعا اجتماعيا في الصين. وقاعدة المواطنة والمساواة أمام
القانون وباب الحراك الاجتماعي والسياسي في إطار النظام السياسي الصيني مفتوح
للجميع، فالكل متساوون أمام القانون والدولة. لكن تلك الدولة شأنها شأن كل دول
العالم لا تسمح بالنزاعات الانفصالية التي تهدد بتمزيق جغرافية الدولة، خاصة في ظل
عدم وجود أي تمييز ديني أو عرقي، وفي ظل حقيقة أن إقليم سنكيانج(شينجيانغ) لا
يسكنه الإيجور(الويغور) وحدهم فثلث سكان الإقليم من قومية الهان الرئيسية في الصين،
كما توجد به الأقليات الكازاخية والقيرغيزية والطاجيكية.
والمشكلة
أن هناك حركة انفصالية عنيفة صنفتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة نفسها منذ
عام 2002 كحركة إرهابية (الحزب الإسلامي التركستاني) وتنفذ الكثير من أعمال العنف
والإرهاب ضد الدولة والشعب وهي تضم قسم صغير من الإيجور وليس كل الإيجور، وتعطي
لحركتها الانفصالية بعدا دينيا إسلاميا كآلية للحشد ولتعبئة التأييد من الدول التي
توجد بها أغلبيات إسلامية ومن الدول المعادية للصين والتي ترغب في عرقلة التقدم
الصيني الكاسح عالميا على جبهة الاقتصاد. وتلك الحركة لا تكف عن ارتكاب الأعمال
الإرهابية كما يفعل تنظيمي داعش والقاعدة وتفريعاتهم المختلفة في سورية ومصر
والعديد من بلدان العالم. والصين لا تركز على تلك الأعمال حتى لا تضر بمناخ
الاستثمار والسياحة. أما أبناء القومية (الإيجور) أنفسهم فإنهم يعيشون في سلام
ويشاركون في نهضة بلادهم، وهم محبون للحياة والبهجة.
وخلال زيارتي للصين في شهر ديسمبر
الجاري وكانت في مدينة يونشوان عاصمة إقليم ننغيشيا الذي يتمتع بالحكم الذاتي ويضم
قومية الهوي (الخوي) المسلمة، توقفنا عند عربة تعد الكباب في الشارع ويوجد بها
جيتار. وأشرت للطاهي على الجيتار مستغربا وجوده في عربة طعام في الشارع، فترك
اللحم وبدأ في الغناء بصوت ساحر جمع عددا كبيرا من مرتادي الشارع عليه. وعندما
استفسرت من مرافقين صيني ومصري عن اللغة التي يغني بها كان الرد أنه من الإيجور.
وفي نفس الزيارة ذهبنا لإحدى
القرى الريفية حسب طلبي ومررنا بهذا المسجد الأنيق الذي يحمل بصمات العمارة
الصينية وترتفع مئذنته الرشيقة كشاهد على ديانة أهل المنطقة. وحل المساء حاملا معه
صوت آذان المغرب باللغة العربية الحبيبة للقلب. وسألت مرافقي (د. يوسف يانغ لينغ
لينغ) من جامعة مينزو التي استضافتني لإلقاء عدد من المحاضرات: هل هناك الكثير ممن
يتحدثون العربية في هذه المنطقة؟ فقال: لا.. لكن الآذان والصلاة باللغة العربية،
ومن لا يعرفهما يتبع الإمام. وصحيح أن الصين لا تحبذ استعراض المظاهر الدينية
باعتبار أن التدين شأن خاص وليس موضوعا للتنافس المظهري بين الأديان، لكن ذلك لا يمس
وجود دور العبادة نفسها كما يحلو للبعض أن يصور الوضع في الصين.
ومنطقة سنكيانج هي بوابة الصين
إلى آسيا الوسطى فهي متاخمة لكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأفغانستان وباكستان.
وإضافة إلى وارداتها من روسيا فإن الصين تستورد الغاز الطبيعي من كازاخستان
وأوزبكستان وتركمانستان عبر خط آسيا الوسطى الذي يمر في منطقة سنكيانج. كما أن تلك
المنطقة هي ممر طريق الحرير الجديد الذي يشكل البنية الأساسية الرئيسية لربط الصين
بدول آسيا الوسطى لتسهيل التجارة السلعية والخدمة بين الطرفين في إطار مبادرة
“الحزام والطريق” التي تهدف لتكثيف العلاقات الاقتصادية الصينية مع دول
وسط آسيا وصولا لجنوب وغرب آسيا والمنطقة العربية وأوروبا عبر تقليل نفقات النقل
والتأمين على التجارة بين الصين وتلك الدول من خلال الربط البري والبحري. وتلك
المبادرة تثير بالغ الاستياء لدى واشنطون. ولم تجد واشنطون موضوعا أكثر إثارة
لعرقلة التقدم في إنجاز طريق الحرير الجديد من قضية مسلمي الإيجور.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد
بدأت سلسلة من الصراعات التجارية مع من تعتبرهم أعداء ومع أصدقائها الأوروبيين
أيضا، فإن الهدف الرئيسي لحروبها هي الصين التي أزاحتها من موقع القيادة التجارية
عالميا منذ ما يقرب من عقد ونصف. ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية (تقرير
إحصاءات التجارة 2018) بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية في عام 2017 نحو 2263
مليار دولار، مقابل نحو 1547 مليار دولار صادرات أمريكية. وبلغت قيمة الواردات
الصينية نحو 1842 مليار دولار مقابل واردات أمريكية قيمتها 2410. وبلغ الفائض
التجاري الصيني في ذلك العام نحو 421 مليار دولار، مقابل عجز تجاري أمريكي هائل
بلغ -863 مليار دولار في العام نفسه. وحتى بالنسبة للصادرات عالية التقنية فإن
الصين تفوقت على الولايات المتحدة منذ عقد من الزمن عندما بلغت قيمة صادراتها
عالية التقنية نحو 406 مليار دولار عام 2010 مقارنة بنحو 146 مليار دولار للولايات
المتحدة وفقا لبيانات تقرير مؤشرات التنمية في العالم الصادر عن البنك الدولي.
وصحيح أن جزءا من الصادرات الصينية عالية التقنية يعود لشركات أجنبية، لكن الصين
تسيطر على الحلقة التكنولوجية لكل من يعمل لديها.
أما الصادرات الصينية للولايات
المتحدة نفسها فبلغت نحو 467 مليار دولار عام 2014، مقابل واردات صينية من
الولايات المتحدة قيمتها 124 مليار دولار، وبلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين
نحو 343 مليار دولار في ذلك العام، وما زال يراوح عند ذلك المستوى. ولم تجد
الولايات المتحدة وإعلامها النافذ وأبواقها من حيلة سوى إثارة موجة من الكراهية
للصين للتأثير سلبيا على صادراتها للدول العربية والدول التي توجد بها غالبية
مسلمة، علما بأن قيمة تلك الصادرات تتجاوز 350 مليار دولار. وأكبر الدول العربية
و”الإسلامية” المستوردة للسلع الصينية هي الإمارات وإندونيسيا وتركيا
وإيران والسعودية ونيجيريا وباكستان وتأتي مصر بعدهم.
أما بالنسبة للناتج المحلي
الإجمالي فإن الصين تشغل المركز الثاني وفقا لقيمة الناتج المحسوب بالدولار طبقا
لسعر الصرف السائد، حيث بلغت قيمة ناتجها عام 2019 نحو 14,2 تريليون دولار، مقارنة
بنحو 21,5 تريليون دولار للولايات المتحدة. أما إذا قيس الناتج بالدولار وفقا
لتعادل القوى الشرائية وهو الناتج الحقيقي فإن الصين تتصدر دول العالم وبفارق هائل
حيث بلغت قيمة ناتجها عام 2019 نحو 27,5 تريليون دولار، مقارنة بنحو 21,5 تريليون
للولايات المتحدة وفقا لقاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق
النقد الدولي.
مسألة “الإيجور” يجري
استغلالها بشكل سياسي واقتصادي لعرقلة الصين وتعويق مبادرتها “الحزام
والطريق” التي تطرح تصورا للنظام الاقتصادي الدولي القائم على التراضي
والتوافق والتعاون السلمي، مقابل نموذج الاستحواذ والهيمنة وآليات الضغط والعقوبات
والإجبار الأمريكية. وعلينا أن نتذكر أن الصين دولة صديقة حقيقية وصوتها في الأمم
المتحدة ومجلس الأمن كان دائما مع مصر ومع الحقوق العربية، ولم تصوت مرة واحدة ضد
تلك الحقوق، ولم تعترف بالكيان الصهيوني إلا بعد أن اعترف به النظام السياسي
المصري وأبرم معه معاهدة للتسوية السياسية وأقام معه علاقات دبلوماسية.
وبالمقابل فإن الولايات المتحدة كانت وما زالت وعلى طول الخط معادية للحقوق العربية والفلسطينية. وإذا كان هناك عرب أو مسلمين يعانون من الاضطهاد الديني أو المذهبي ويتعرضون للقتل ويستحقون تعاطفنا ودعمنا فهم في فلسطين واليمن والعراق وبورما وحتى في الهند، لكنهم ليسوا في الصين التي تواجه مثلنا حركة إرهابية وليس شعبا مسلما.