و جاءت اتفاقيات إيفيان تجسيدا للتلاحم بين العمل المسلح والعمل السياسي وكذا الدعم الشعبي بعدما استثمرتها حنكة الوفد الجزائري المفاوض في تحقيق أهداف جبهة التحرير المتمثلة في نيل الاستقلال في إطار الثوابت المحددة في بيان أول نوفمبر, رغم محاولات المستعمر الفرنسي القفز على هذه الثوابت إلا أن تمسك الحكومة المؤقتة بموقفها المسنود شعبيا من خلال المظاهرات التي نظمت في ربوع الوطن وفي المهجر أثمر نصرا مبينا, حسب ما اجمع عليه أساتذة في التاريخ في تصريح ل “وأج”.
و تمكن الوفد الجزائري المشارك في هذه الاتفاقيات بقيادة كريم بلقاسم من تفكيك الألغام التي زرعها الطرف الفرنسي على مدار سنوات, ليكون يوم 18 مارس 1962 تاريخا فاصلا في حياة الجزائريين, مؤكدين عبر مختلف المحطات أن جبهة التحرير الوطني الممثل الشرعي والوحيد لهم.
و بعد رفض الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ 1954 التفاوض وحل القضية الجزائرية بوصفها قضية تصفية استعمار أجبر عنفوان الثورة التحريرية المحتل على التفاوض عدة مرات, إذ يوضح أستاذ التاريخ بجامعة البليدة محفوظ عاشور أن “الضغط تضاعف على المحتل الفرنسي سيما بعد مؤتمر باندونغ وهجومات الشمال القسنطيني 20 أوت 1955, فكانت اتصالات القاهرة, وبلغراد السرية لتتوالى المفاوضات بعدها إلا أن سمتها الرئيسية تتلخص في كونها مناورات سياسية ومحاولة لكسب الوقت, وهو نفس النهج الذي لجأ إليه الجنرال ديغول عبر مفاوضات مولان وحتى إيفيان الأولى”.
و يضيف الأستاذ محفوظ عاشور أن تلك الألاعيب “تراوحت بين الدعوة إلى وضع السلاح كشرط للتفاوض تارة, ومحاولة فصل الصحراء تارة أخرى سيما بعد اكتشاف النفط, وهو ما دحضه سكان الجنوب بمظاهرات 27 فيفري1962 بورقلة لتأكيد الوحدة الوطنية, كما حاول المستعمر ايضا القفز على الصفة التمثيلية لجبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري”.
أما سياسيا فلجأ الجنرال ديغول إلى عدة مناورات أبرزها مشروع “الجزائر جزائرية” الذي رد عليه الشعب الجزائري ومن خلفه جبهة التحرير بقوة من خلال مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بالتزامن وزيارته للجزائر لشرح مشروعه الذي يهدف إلى تهميش جبهة التحرير.
فشل مخططات ديغول ولا بديل عن المفاوضات
و من جانبه أوضح, أستاذ التاريخ علال بيتور أن ضغوط فرنسا الاستعمارية لعبت على عدة جبهات, فميدانيا جاء الجنرال ديغول بعد سقوط الجمهورية الرابعة ببرنامج يهدف للقضاء على الثورة في سنتين كانت من أحلك السنين. فأطلق ديغول سلسلة من المناورات بداية من “سلم الشجعان” في أكتوبر 1958, و”مشروع قسنطينة” في 3 أكتوبر 1958, ومخطط شال في 1959, وهو المخطط الذي يعد رهيبا عسكريا, على حد وصف الاستاد بيتور.
و في السياق ذاته, يضيف الباحث في التاريخ جمال يحياوي أن “سياسة ديغول بنيت على الترهيب والترغيب” ساعية في مجملها إلى إضعاف الموقف الجزائري, من خلال “التركيز على البعد العسكري بكل ما أوتي من قوة بمخططات خاصة بالمدن كما بالجبال ظنا منه أن العمليات العسكرية الكبرى قد تؤدي للقبول بمطالبه, إلا أن الفشل كان حليف مشاريعه ليعود صاغرا للمفاوضات”.
و إلى جانب العمل الثوري المسلح الذي أرهق كاهل إحدى أعتى القوى الاستعمارية وأجبرها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات, لم تكن الحرب الدبلوماسية أقل حدة, إذ كان الهدف الأساسي منذ اندلاع الثورة التحريرية سياسيا يهدف لتدويل القضية وإسماع صوتها خارجيا, وهو الدور المنوط بالوفد الخارجي.
و في هذا الصدد, يقول أستاذ التاريخ بجامعة وهران رابح لونيسي أن القيادة عملت على “إسماع صوت الثورة في مختلف المحافل الدولية منذ 1955, وأصرت على إدراجها ضمن أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة دوريا, وهو ما تم تعزيزه بعد إنشاء الحكومة المؤقتة التي لعبت دورا دبلوماسيا كبيرا فرض على فرنسا التفاوض الجاد سيما بعد مظاهرات 11 ديسمبر 1960”, لتكون النتيجة النهائية انتصارا زفته اتفاقيات إيفيان للشعب الجزائري.