استطاعت الصين الاستثمار في تاريخها الطويل الخالي من السلوك الاستعماري، فهي لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب ثروات الشعوب، أو الاتجار بالبشر، وتدمير البلدان الأخرى كما فعل الاستعمار الغربي.
شبكة طريق الحرير الإخبارية/ CGTN/
استطاعت الصين الاستثمار في تاريخها الطويل الخالي من السلوك الاستعماري، فهي لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب ثروات الشعوب، أو الاتجار بالبشر، وتدمير البلدان الأخرى كما فعل الاستعمار الغربي.
وركزت على نموذجها الفريد في بناء الدولة، بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى التي تلقى قبولاً لدى العالم.
ورفعت الصين العديد من المبادئ التي لقيت قبولاً كبيراً لدى الدول الأخرى، مثل: عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، والمساواة بين الدول بغض النظر عن حجمها، وكذلك تقديم نفسها على أنها دولة نامية.
لطالما اعتبرت الدراسات أن التكنولوجيا والانفتاح على الآخر تضعف الهوية الوطنية للشعوب، لكن الصين (بلد التكنولوجيا) استطاعت الحفاظ على هويتها وثقافتها وقيمها، بل ربما نجحت في توظيف التكنولوجيا في سبيل تحقيق هذا الهدف.
استطاعت الصين تاريخياً الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية المتميزة، عبر انكفائها على ذاتها وعدم الاختلاط بالحضارات الأخرى، أو التقليل من هذا التمازج ما أمكن.
لكنها وبعد سياسة الإصلاح والانفتاح وجدت نفسها بحاجة إلى الانطلاق نحو العالم، مع التركيز على ثقافتها الوطنية وقيمها الحضارية الراسخة.
المجتمع الصيني مجتمع محافظ، متمسك بعاداته وتقاليده، فخور بها، يقدس الكبار ويحترمهم، وهو ما نما في شخصية المواطن الصيني احترام الآخر، ومعرفة مكانته وقدره.
تميزت الشخصية الصينية بالتسامح النابع من التعاليم الكونفوشيوسية کاحترام العائلة، والقيم الأسرية، وتوقير الکبير، والتمسك بالأخلاق.
كونفوشيوس (الزعيم الروحي للصين) يرى أن المجتمع يقوم على نظام مقدس يجب احترامه. وهذا النظام مبني على خمس قواعد أساسية، هي: علاقة الحاکم بالرعية، علاقة الزوج بزوجته، علاقة الوالد بولده، علاقة الأخ بأخيه الأصغر، علاقة الصديق بصديقه.
احترام السلطة وطاعتها، أمر مقدس في الصين، ويبدو أنه عائد إلى طبيعة المجتمع الصيني، فهو مجتمع زراعي يدرك أهمية السلطة ومكانتها والحاجة إليها.
تقديس العمل نابع من ازدراء المجتمع لمن لا يعمل، بل ربما أيضاً لعدم وجود فكرة قيام الآخرين بمساعدة الإنسان طالما أنه قادر على العمل، خاصة وأن فرص العمل يبدو أنها متاحة للجميع، مع اختلاف نوعيتها ومردودها بالتأكيد.
الانضباطية العالية التي يتمتع بها المجتمع الصيني مثيرة للدهشة والاستغراب، حيث تشكل لدى الإنسان شعوراً داخلياً بأنه لا يمكنه مخالفة القانون، فأصبح هناك حالة من الانضباط الذاتي، قومت سلوك الفرد وحولته إلى مواطن ناجح.
ربط الدخل بالإنتاج ليست مجرد شعاراً، حيث استطاعت الحكومة الصينية إيجاد الكثير من الطرق لمكافأة المجد، ومحاسبة المقصر.
حب الوطن أمر لافت وكبير، وإن بدا للوهلة الأولى أمراً طبيعياً (بمعنى أن كل إنسان يحب وطنه)، لكن المميز في ذلك هو تعبير المواطن الصيني عن هذا الحب.
حب الوطن ليس كلاماً فقط، بل هو انضباط وإلتزام بالقانون، وحفاظ على الممتلكات العامة، وسوى ذلك من السلوكيات التي تجسد ذلك الحب بعيداً عن الكلام العاطفي الذي لا قيمة له.
تكريس فكرة “النموذج والقدوة” أمر هام وكبير، ولطالما نجحت الحكومة الصينية في جعل سلوكيات مسؤوليها تكون بمثابة السلوك النموذجي، وهو ما استوجب المحاسبة الصارمة لأي مسؤول إذا ما حدث انحراف في سلوكياته المهنية.
أن تكن مواطناً عادياً فلك هامش كبير من الحريات الشخصيات، لكن أن تكون مسؤولاً في الحزب الشيوعي الصيني فعليك الالتزام بأخلاقيات الحزب وسلوكياته المنسجمة مع عادات الشعب الصيني وتقاليده وقيمه.
تلك التفاصيل الصغيرة والعميقة استطاعت جعل الحزب الشيوعي الصيني أحد أبرز الأحزاب في العالم، نظراً لنجاح تجربته الفريدة في الانتقال ببلد بحجم الصين من بلد فقير ومتخلف، إلى دولة عظمى لا يفصلها عن قمة الهرم الدولي سوى بعض الوقت.
التنمية المتوازنة جعلت أبعد المدن في الصين تتمتع بالخدمات ذاتها التي تتمتع بها العاصمة بكين، بل ربما تتميز عنها بحكم أنها مدناً حديثة، بينما بكين عاصمة عريقة.
بعد أن طرحت الصين مشروع الحزام والطريق في العام 2013، أصبحت أمام المزيد من التحديات الثقافية والحاجة إلى تعزيز هويتها الوطنية نتيجة للاختلاط المتوقع بينها وبين باقي الدول الثقافات.
كذلك الأمر بالنسبة لمنظمة البريكس، التي قادت الصين عملية توسيعها لتضم 11 دولة تمثل حضارات العالم السبع (الصينية والهندية والغربية والروسية والافريقية والإسلامية والأمريكية اللاتينية).
الهوية بالنسبة للشعب الصيني هي “الذات”، والتفرد الذي يميزهم عن غيرهم من الحضارات، وهو ما رسخ لديهم.
احترامك لذاتك وثقافتك وهويتك هي الخطوة الأولى لجعل الأخرين يحترمونك. أما الخطوة الثانية والأهم والأبرز، فتتمثل في كيفية تعاطيك مع الأخر، فاحترامك للآخر هو انعكاس لاحترامك لذاتك.
يتم بناء الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خلال عملية تبادل المعرفة الجماعية مثل: العادات والتقاليد، والتراث، واللغة، والجمال، والقواعد…إلخ.
للصين حساسية كبيرة لجهة احترام الهوية الثقافية للشعوب الأخرى، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على علاقاتها وخصوصاً مع الدول العربية، ودول القارة الافريقية.
“لا تحقر ديناً أنت لا تعبده”، عبارة كتبت باللغة الآرامية على أحد المعابد في مدينة تدمر السورية قبل ألفين وخمس مائة عام تقريباً.
تلك العبارة وإن كانت سورية، إلا أنها تبدو راسخة ومتجذرة في الثقافة الصينية، التي تحترم كل الأديان والطوائف والمعتقدات التي تؤمن بها الشعوب.
لذا فقد حظيت الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد والسيدة عقيلته إلى معبد لينغين (معبد بوذي شهير يقع في مدينة هانغتشو) باهتمام كبير من قبل الشعب الصيني. حيث قدم صورة عن الإسلام المعتدل الذي يحترم جميع الأديان والطوائف والمعتقدات.
لقد باتت الصين لغزاً محيراً لأعدائها، ومصدراً للأمل بالخلاص من الغطرسة الأمريكية للعديد من دول العالم.
ونجح الحزب الشيوعي الصيني بتقديم نموذجاً لنظام يتمتع بالجدارة السياسية، كونه استطاع التفوق على النماذج السياسية الأخرى التي تتبنى النمط الديمقراطي الليبرالي القائم.
ذلك أن الديمقراطية وسيلة لإدارة شؤون الدولة، وليست هدفاً بحد ذاته. فالمشكلة في الدول الغربية أنها تريد من دول العالم أن تبدأ من حيث انتهت هي.
متناسية أن “الديمقراطية” ليست سوى منتج حضاري وصلت إليه الشعوب الغربية بعد تجارب كثيرة عاشتها وطورتها وصولاً إلى ما يناسبها.
كما أن هذه القيم “الديمقراطية” التي تعود إلى مئات السنين، لابد وأنها لم تعد مناسبة لما يعيشه العالم اليوم من تطورات متسارعة.
وإذا كانت العبرة بالنتائج، فقد استطاع النظام السياسي الصيني بناء الدولة والمجتمع، والقضاء على الفقر لأكثر من 800 مليون مواطن صيني، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ذات الصلة.
(ملاحظة المحرر: يعكس هذا المقال وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة رأي قناة CGTN العربية.)