شبكة طريق الحرير الصيني الاخبارية/
بقلم: الأكاديمي مروان سوداح
“الأُم البطلة”، هي أُمي التي قاومت وأَذَلَّت أعداء الله والإنسان، وانتصرت على خصوم الروح والمُستهدِفِين اسمها ومكانتها، وقاومت وواجهت مصاعب الحياة وما تلده من متاعب متواصلة لأجل ابنائها وأسباطها. وللمرة المليون أقول: “أُمي هي الأم المِثاليَّة”.
عَلَّمتني أُمي “سُعاد جريس موسى دبدوب” التحلي بالشهامة والحق، وضرورة الدفاع عنهما، ولزوم مَحبَّة الحياة من أجل الحياة بصيغتها المِثاليَّة التي أبدعها المَولى للبشر، وأهمية النضال من أجلها مَهما كلف ذلك من أثمان باهظة قد تكون أحياناً كثيرة حَيوة الإنسان الشريف نفسها، فقد كانت تردِّد بلا كلل ولا ملل، أن العَلي القدير والعظيم خلقنا لأجل أن نكون على شاكلته ومِثاله، نواجه المصاعب التي هو بالذات يَشرع متى يَشاء بتذليلها من أمام شعبه الأرضي، ويُبعد عنهم العقبات التي يَختلِقها أشياع جهنم وأنصار النار. لقد تعلمتُ من أُمي أن أكون ما أنا عليه، وليس على ما يريده البعض لي أن أكون. كانت رحمها الله وأحسن إليها الخير كله والسلام جُلّه. لقد كانت تبتعد عن السلبيات، عاملة في سبيل تعظيم الإيجابيات، وتحويل الظواهر والأشياء السلبيَّة إلى جيــدة وإيجابية، فقد تَفَرَّد مَعْدَنَها بالبيَاض الناصِع والشفاف يتَّضِحُ سريعاً للقاصي والداني، وكانت رحِمها الله تتميز بالسَّمَاحَةِ، وتُسامِحُ كُلَّ مَن أخطأ إليها ولعائلتها. كانت تنظر ببهجة لكل الأحياء من بشرٍ ونبات وطبيعة، للسماء والماء، وتدعو بالمَغفرة والبيت السماوي لكل الأموات، وتساهم في التفاهم الشامل بين الأهل والأقارب والناس، وتُعلي بينهم خِصال السَّعادَة وتعظيمها، لتسود مفاهيم الإِنْسِجَام والتَآلُفِ والهناءِ في كل مكان وعلى كل مَن يَنطق بحرفٍ ولديه عقل ومشاعر.
في واحدةٍ من مآثر والدتي البطوليَّة، رَفضها تسليمي للعدو الذي عَرَضَ عليها “صفقة”: نحن نَعرف مَن أنتِ، وأين تسكنين، وكل شيء عنكم، بل ونَعلم أيضاً كل شيء عنكِ وعن ابنكِ مروان. “سلمينا ابنك، نُطلق سراحك”.. نريد فقط أن نتحدث مَعَهُ!.. هذا هو الهاتف، خُذيه واتّصلي بهِ ليحضر إلينا، فتكوني حرَّةً بعد ذلك!
والدتي رفضت رفضاً قاطعاً، وأكدت بكل أنفة وشجاعة لجلاديها الذين يحملون في ذواتهم شهادات إثمهم: مُستعدة للموت بأيديكم، لكنني لن أُسلِّم ابني لكم”. هكذا كان. فاضطروا إلى إطلاق سراحها، فهي ربَّة بيت ليس إلا، ولا علاقة لها بالسياسة العميقة، ولا بالاقتصاد ولا بالعلاقات الدولية والأوضاع الإقليمية، لكنها تقبَّلت الشهادة على تسليمي للاحتلال وفاشيَّته.
أُمي أحبت أسباطها الذين زيَّنوا حياتها بألوان قوس قزح حُبَّاً شديداً، فقد عاشوا معها تحت سقف واحد، وتميَّزت بالحدبِ الأميزِ عليهم، فبادلوها المحبة بمثلها والثقة بذاتها، وغدا كل واحد منهم كل شيء بالنسبة إليها. كانت تعشقهم بكل اللغات التي تتقنها، وكانت العربيَّة بالطبع، بالإضافة إلى لغات أوروبية، ضمنها الإيطاليَّة؛ الإسبانيَّة؛ الفرنسيَّة؛ الإنجليزية، واللاتينيَّة القديمة؛ واللهجة المكسيكية؛ فظللوا حياتها بالطيبِ، ومنحوها مزيداً من البهجة والسُرور والحُبور في رحلتها الزمنية القصيرة بعد وفاة والدي (“موسى سالم سوداح) – صَدَّاح وصَيدح”، و أب أُمي “جريس” في بيت لحم بجوار “كنيسة المهد”، الذي هو جدّي ذو الأصل الإيطالي من مدينة اَلْبُنْدُقِيَّةُ – “ڤينيزيا”.
كانت أُمي تواظب على الصلاة في البيت وفي مواقع القدَاسة، وتوصيني صباحاً ومساءً بالصلاة، والخشوع لله، والتسليم إليه والانقياد له، لأنها كانت ترى في الحياةِ رحلةً قصيرةً، بينما الحياة الحقيقية والدائمة هي في الأبدية الروحية، البعيدة عن الماديات بكل تجلياتها الوقتية، فكانت رحمها الله تُدركُ بأن حياة الناس على وجه البسيطة إنمَّا هي مشواراً قصيراً يؤكد صَلاحهم أو طَلاحهم أمام مَحكمة السماء التي لا عدالة قبلها ولا بعدها. كانت “سُعاد” تطفح سَعادةً، ولا تأبه لمصاعب العَالم، فقد كانت تردد: الله معنا.. ونحن خاضعون لإرادته.
لذلك، كانت أُمي تضحك وتبتسم لتبتسم الدنيا لها حتى في الأحوال التي تبدو الأكثر سوداوية. كانت تهوى خدمة الناس، وكان كل لِسَانٍ يلهج بشكرها وتقديرها لطيب تفكيرها وصراحة كلماتها.
“يا أُمي، أنتِ الأُم البطلة.. أنتِ بطلتي.. وأنتِ حياتي وأنا مدينٌ لكِ بها بعد الله العلي العظيم.. سأذكرك ما بقيتُ على سطح هذه الكرة الأرضيَّة.. ستكون ذِكراكِ حاضرة في عقلي ومشاعري في كل لحظة وعلى مدار كل يوم.. وستبقين الحبيبة مدى الدهر لكل أسباطك وأحفادك (مَارِيَّا؛ مَارِينَا؛ مَروَانَّا؛ أدِيب؛ عِيسى و غَابْرِييلاَّ)، أنتِ أُمي وبغيـــر أُمي لا أعيش عُمراً، أنتِ حياتي، وأنَا أعيش على نبضات روحك الأبدية.. أُحبك أُمي.. انتِ مَعنى ما بقي لي من أيام وشهور.. ثم المآل لله فهو النعيــــم الذي لا ينفذ”.