شبكة طريق الحرير الصيني الاخبارية/
المصدر: مجلة الصين اليوم
بقلم: حيدر قاسم مَطَر التميمي
تُعد الحضارة الصينية من أعرق الحضارات التي عرفها التاريخ، وهي على الرغم من تنوع قومياتها ولغاتها تمكَّنت من المحافظة على وحدة شعبها والتواصل مع مختلف الحضارات عبرَ الترجمة من ناحية ونشر لغتها الصينية من ناحية أخرى. وذلك تجسيدا لنظرية (حوار الحضارات) المعروفة، ففكرة حوار الحضارات يُمكنها أنْ تُكافح عُزلة (الأنا الصغيرة) المتبجِّحة، وإبراز واقع (الأنا الحقيقي) الذي هو بالمقام الأول علاقة بالآخر، وعلاقة بالكُل.
ولعلَّنا في العالم العربي ما زلنا حتَّى يومنا هذا بحاجة ماسَّة إلى المعرفة أكثر بمبادئ الحضارة الصينية، وتعميق أواصر الحوار بين الحضارة العربية- الإسلامية والصينية، لاسيَّما أنَّ أهم المدارس الفكرية الصينية، مثل الكونفوشية والطَّاوية، تُناشِدان الإنسان بوجوب تحقيق السلام الداخلي قبل الخارجي، وتعلُّم كيفية تحقيق التوازن بين الأنا والآخر. وبالتالي فإنَّ لحوار الحضارات علاقة كبيرة بنظرية تناغم الحياة اللغوية، فمن أهم المشكلات التي تواجهها الحضارة العربية- الإسلامية هي كيفية تحقيق التواصل السِّلمي مع حضارات متنوعة، لاسيَّما أنها صارت في عصرنا الحالي مُعرضةً لتُهم كثيرة- بالمحافظة في الوقت نفسهِ على طابعها التقليدي والاندماج في عصر التقدم الحديث.
وفي دعوة لجميع المثقفين والأكاديميين العرب للبحث في مزايا ونقائص العلاقة الثقافية التي تربط العالم العربي بالصين، هاتين الحضارتين العريقتين التي يمكن للعلاقة بينهما أن تكون حلا جديدا لإعلاء مكانة الحضارة العربية في العالم ككُل، لاسيَّما أنَّ الصين أصبحت اليوم من أهمِّ القوى الاقتصادية. والعلاقة الثقافية ليست علاقة ثانوية مثلما يراها بعض السياسيين، بل هي من أهمِّ الروابط التي يجب تحسينها باستمرار، فمن دونها تظل العلاقات بين الدول علاقة قائمة على منفعة اقتصادية قصيرة المدى ومحدودة الأبعاد.
بدأت العلاقة بين العالم العربي والصين منذ ألفي سنة تقريبا، عِبرَ طريق الحرير التجاري القديم، وبذلك كانت الجزيرة العربية هي إحدى أولى المناطق التي بدأت الصين بالتعامل معها. ومنذ تأسيس الجمهورية الصين الشعبية عام 1949، وقد امتدت العلاقة بين الصين والعالم العربي لأكثر من 70 سنة. وهي علاقة على الرغم من مرورها بعدَّة مراحل، تمكَّنت من الصمود أمام العديد من التحديات مثبتة بذلك مدى عمق الصداقة الموجودة بين الشعبين. ومع دخول الصين في مرحلة الإصلاح عام 1978، دخلت العلاقات العربية- الصينية مرحلة جديدة أكثر عمقا وتنوعا في مجالات شتَّى، منها: الاقتصادية والثقافية والتعليمية والسياحية، حتَّى أنها بدأت شيئا فشيئا تأخذ حيِّزا هاما في حياة كلٍّ من الشعبين.
ونظرا لأنَّ الصين تطمح في التعرف أكثر على خصائص العالم العربي وكيفية التعامل معه، صارت دراسة العلاقات العربية- الصينية عموما محطَّ أنظار العديد من الباحثين الصينيين، الذين تناولوا موضوع تاريخ العلاقات العربية- الصينية التي بدأت قبل سنة 618، أي قبل وصول الإسلام مرورا بالأسرات الحاكمة في الصين: تانغ (618- 907)، وسونغ (960- 1279)، ويوان (1271- 1368)، ومينغ (1368- 1644)، وتشينغ (1644- 1911). وهي علاقة قائمة بالأساس على مبادئ الصداقة والتبادل التجاري الاقتصادي.
اللغة العربية في الصين
مثلما بدأت العلاقات العربية- الصينية، بدأ تاريخ تعليم اللغة العربية في الصين مع انطلاق طريق الحرير التجاري القديم أي منذ ألفي سنة، وازداد تأثيرها أكثر مع دخول الإسلام وانتشارهِ في بقاع صينية كثيرة، مثل مدينتي بكين وشيآن ومنطقتي نينغشيا وشينجيانغ، حتَّى أنَّ لهجات القوميات المسلمة الصينية صارت بها كلمات عربية كثيرة، ولغة قومية الويغور ما زالت إلى اليوم تُكتَبُ بحروف عربية. وبذلك كانت اللغة العربية من أولى لغات العالم التي دخلت حيِّز حياة المجتمع الصيني.
ومع بداية القرن العشرين، شَهِدت الصين تغيرا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وشَمِل تعليم اللغة العربية إصلاحات عديدة على مستوى المحتوى والمنهج والجودة، لتنتقل من مجرد لغة تقليدية دينية إلى لغة أجنبية مستقلة بذاتها يتم تدريسها في المعاهد والجامعات الصينية. ومنذ عام 1978 دخلت الصين مرحلة الإصلاح والانفتاح المستمرة إلى يومنا هذا، حيث دخل تعليم اللغة العربية أهمَّ مراحله وصارت هذه اللغة تُدرَّس في العديد من الجامعات الصينية، مثل: جامعة بكين وجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين وجامعة الدراسات الدولية بشانغهاي، لتصبح شيئا فشيئا تخصصا يمكن اختياره في مراحل الماجستير والدكتوراه. وقد أسهمت هذهِ الجامعات والمعاهد في إنشاء جيل جديد من المترجمين والدبلوماسيين والخبراء الاقتصاديين والسياسيين والاجتماعيين الصينيين في تخصص اللغة العربية.
ووفق آخر الإحصائيات وأحدث المصادر المختصة، فإنَ اللغة العربية في الصين تحتل اليوم المرتبة الثامنة من حيث الاستعمالات في المؤسَّسات الحكومية والخاصة. وهو ما يجعلنا نفكِّر في كيفية نشر اللغة العربية في الصين، لاسيَّما أنها تواجه منافسة كبيرة من اللغات الإنجليزية والفرنسية على وجه خاص، ولعلَّ من أنجع الحلول وأسرعها هي إشراف مجامع اللغة العربية على إصدار مناهج تعليم موجَّهة للصين، والقيام بندوات مكثفة ودورات صيفية تدريبية بالتعاون مع الجامعات العربية، والقيام بأنشطة ثقافية ولغوية من شأنها تحسين العلاقات الثقافية بين الشعب العربي والشعب الصيني.
مبادرة “الحزام والطريق” وأثرها على التبادل الثقافي الصيني- العربي
بدأ العالم العربي يهتم أكثر فأكثر بمُبادرة “الحزام والطريق”، فمنذ عام 2013 صدرت العشرات، لا بل المئات، من المقالات والأبحاث عن هذهِ المبادرة، إلاّ أنَّ ما يُلاحظ عليها أنَّ أغلبها تطرقت إلى الجانب الاقتصادي فقط، وكأنه هو الجانب الوحيد للتعاون مع الصين، على الرغم من أنه منذ إطلاقها تمَّ عقد اتفاقيات ثقافية عدَّة، وأُقيمت في الصين والعالم العربي تظاهرات وأنشطة ثقافية عديدة.
في ظلِّ مبادرة “الحزام والطريق”، أصبحت الصين نافذة هامة على العالم ومحطَّة ثقافية جديدة لكلّ مَن يتعاون معها. ولذا، يحتاج العالم العربي إلى تعميق أواصر التعاون مع الصين ثقافيا للتعريف أكثر باللغة والثقافة العربية- الإسلامية لدى مختلف أفراد الشعب الصيني، ولتحقيق ذلك نقترح مجموعة من الخطوات الجادة التي نرى ضرورة تطبيقها مع الجانب العراقي على أقل تقدير، وهي: اقتراح قائمة بالمؤلَّفات العربية الكلاسيكية والحديثة التي يمكن ترجمتها إلى اللغة الصينية في إطار اتفاقية الترجمة بين العالم العربي والصين؛ تنظيم ندوات في الصين للتعريف بالأدباء والعلماء العراقيين المشهورين، برعاية جمعيات ومؤسَّسات الثقافة والترجمة العراقية؛ تنظيم ندوات علمية في الصين والعراق، بالتعاون مع مراكز دراسات الشرق الأوسط واللغة العربية في الجامعات الصينية، واستدعاء المختصين العراقيين والصينيين في علوم التخطيط اللغوي والثقافة والاجتماع حول الثقافة العربية والصينية، وكيفية تعميق العلاقة بين الشعبين العراقي والصيني؛ إنشاء برنامج للمنح البحثية يُكرَّس بصورةٍ رئيسية لطلبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية المختلفة، إضافة إلى الباحثين العاملين في مؤسَّسة بيت الحكمة، تموِّله وتدعمه حكومة جمهورية الصين الشعبية، ويعمل بيت الحكمة على إدارتهِ وتنظيمهِ. هذا البرنامج الذي من شأنهِ توثيق أواصر التعاون بين جيل الشباب من الأكاديميين المهتمين بموضوعات البحث العلمي المشتركة والمتقاربة.
بيت الحكمة ومبادرة “الحزام والطريق”
في مساهمة من مؤسَّسة بيت الحكمة العلمية لدراسة المشروعات الاقتصادية والثقافية العالمية، والتفاعل معها، شاركت هذهِ المؤسَّسة العلمية من خلال موفدها الدكتور حيدر قاسم مَطَر، رئيس قسم الدراسات التاريخية، في المنتدى العلمي الثاني لمبادرة “الحزام والطريق” الذي أُقيم في مدينة بكين عاصمة جمهورية الصين الشعبية. والذي استمر للفترة من 23 إلى 27 إبريل 2019، والذي تضمَّن مجموعةً متنوعة من النشاطات الثقافية والعلمية المهمة، اشتملت على مؤتمرٍ علمي ومجموعة من الندوات والحلقات النقاشية التخصصية، والتي تعالج وتدرس موضوع المبادرة من كلِّ الجوانب تقريبا.
ولا يخفى لِمَا كان لمشاركتنا هذهِ من تهيئة فرصة هامة وكبيرة للتعرف على طبيعة المجتمع الصيني العريق، وتفاعله الإيجابي والمثمر إلى حدّ كبير مع المؤسَّسة الحاكمة في هذهِ الدولة العظمى، ممثلة بالحزب الشيوعي الصيني، مما قادنا إلى استنتاج أنَّ نهوض الصين لم يكن بالأمر اليسير، فهو نتاج لتشابك وتفاعل مجموعة من المعطيات والعوامل المتفاعلة، ومن ضمن العوامل الهامة التي ساعدت في نجاح التجربة الصينية والانتقال بسلاسة من اقتصاد منغلق إلى اقتصاد منفتح، والدور الفعَّال والإيجابي الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني. إنَّ فهم مسار التحولات التي شَهِدها الحزب الشيوعي يُعد مدخلا لا بدَّ منه لفهم عملية التحديث السياسي للدولة، خاصة وأنَّ الكثير من الملاحظين يعتقدون بأنَّ انطلاق الإصلاحات الاقتصادية في الصين، والتحول نحو اقتصاد تتحكَّم فيه آلية السوق والحرية الاقتصادية، قد جعل الحزب الشيوعي يلعب دورا هامشيا على مسرح السياسة والاقتصاد في الصين. غير أنَّ الواقع عكس ذلك، فالحزب/ الدولة لا زال يتحكَّم في الاقتصاد كما يتحكم في المجتمع (بصورة إيجابية بالطبع)، وهو الأمر الذي كذَّبته الأحداث اللاحقة وآخرها أسلوب مواجهة الصين لفيروس كورونا الجديد، وكيف كان للحزب الشيوعي دورٌ محوري في محاصرة المرض والتقليل من مخاطرهِ على الأرواح وعلى الاقتصاد الصيني.
وممَّا لمسناه أيضا خلال اللقاءات والحوارات العديدة التي خضناها مع أشخاص يمثلون مختلف طبقات وفئات المجتمع الصيني تقريبا، أنَّ ترسيخ الجذر في الشعب وامتزاج الدم والنبض مع الشعب والحصول على القوة من الشعب، هو سر الحزب الشيوعي الصيني لتجاوز عقبة تلو الأخرى والتغلب على جميع المخاطر والتحديات في غضون قرن من النضال، وهو أيضا منطقه الأساسي لقيادة الثورة والبناء والإصلاح في الصين. حتَّى نرى تكاتف جميع أبناء الشعب في سبيل وطنهم الأم، وشغفهم الجلي بحضارتهم وثقافتهم، وعلى الرغم من أنَّ هذه الصفات ومنهج الحياة ليست بالجديدة على الشعب الصيني، فإنَّ دور الحزب الشيوعي الذي تمسَّك بروح إبداعية متقدما مع إيقاع العصر، واضح تماما. في فترات تاريخية مختلفة، كان الحزب الشيوعي الصيني قادرا على دمج المبادئ الأساسية للماركسية مع وقائع الصين بشكل خلاّق، والتكيف مع الوضع الجديد وتحرير العقول والبحث عن الحقيقة من الوقائع وتعزيز الابتكار النظري على أساس الممارسة باستمرار والجرأة على التغيير والابتكار، وألاّ يكون فريسة للتفكير المتحجِّر، وألاّ يتقوقع في مكانه أبدا، بل يدرس الأحوال الجديدة ويحل المشكلات الجديدة، ويخلق باستمرار وضعا جديدا في الإصلاح والتطوير بلا انقطاع. كلَّ هذا ساهم في تعزيز الهوية الوطنية لأفراد الشعب الصيني، وهو ما يلمسه أيَّ زائر فور وصوله إلى أرض هذه البلاد الرائعة.
*د. حيدر قاسم مَطَر التميمي، باحث بيت الحكمة العراقي