شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
د. الضو خضر أحمد عبد الله[1]
برعاية كريمة من دائرة العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي الصيني والأمانة العامة لجامعة الدول العربية انعقدت بالعاصمة الصينية بكين يومي السابع عشر والثامن عشر من نوفمبر الجاري أعمال الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الحوار بين الحضارتين العربية والصينية والتي لقيت حضوراً نوعياً عربياً وصينياً مكثفاً، وقد أتي الانعقاد في إطار البرنامج التنفيذي لمنتدى التعاون الصيني العربي والذي يعتبر المنصة الاستراتيجية الصينية العربية للتعاون والشراكات والعمل المشترك في العصر الجديد.
ثمن المؤتمر عالياً مبادرة الحضارة العالمية التي ألقاها الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني فخامة الرئيس الصيني شي جين بينغ، والتي تعتبر أحد أبرز المبادرات الصينية المعاصرة الذاخرة بالحكمة والفكر المستقبلي والنظر السديد، من بعد أن ألقت في الوعي الحضاري الإنساني العالمي ووجدانه المضطرب رؤى حضارية مستقبلية صائبة ظلت غائبة عن العقل الحضاري العالمي في العقود الماضية بسبب سياسات الهيمنة والغطرسة والاحتلال، وتفجير النزاعات، ومجافاة العدالة والاعتدال.
عطفاً على ذلك وعلى خلفية تواجدي ضمن الوفود المشاركة في المؤتمر تعبأت طاقاتي وازداد جموحي للغوص عميقاً في مكنونات وخلفيات رؤي الحضارة الصينية الزاهرة، كما انعقد العزم حثيثاً للبحث عن مسارات وقواعد وتوجهات استراتيجية جديدة للصعود الحضاري العربي المرتقب على خلفية مضامين البيان الختامي للمؤتمر والذي نص على ترسيخ التعاون وتوسيع الشراكات لبناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك في العصر الجديد.
لم يزل يتملكني ارتياح لا متناهي لتواثق الحضارتين العريقتين على ترسيخ القيم المشتركة للبشرية والتعاون وتعميق الشراكات، وقد رأيت ذلك الارتياح أثناء جلسات الانعقاد على وجوه الوفود المشاركة والتي أشادت بالموضوعات المطروحة والروح الإيجابية والتوافقات معبرين عن رضاهم وارتياحهم للمسارات الصينية العربية في العصر الجديد.
وقد تساءل البعض على خلفية هذه الروح عن سر الجنوح الغربي المعاصر ونزوعه الفوضوي المثابر نحو أطروحاته المتهالكة بشأن تطور الحضارات الإنسانية والنظرة الاستراتيجية لعلاقاتها القائمة والتي ادعى عبرها في غرور نهاية التاريخ، وأعلن خلالها في غباء أفضليته الحضارية وعلو قيمه الليبرالية على قيم حضارات العالم الأخرى، متجاوزاً تاريخها وكسبها وإنتاجها العلمي والمعرفي وموقعها في ميزان القوة العالمي المعاصر.
يجدر بنا في هذا السياق الإشادة بالأفق الحضاري الصيني المعاصر والذي ألقى على خلفية تلك المواقف الاستعلائية وذلك الادعاء النرجسي الكذوب جملة مبادرات عالمية تشاركية معاصرة اكتنزت بين حناياها العديد من المضامين الإنسانية الحضارية المتناغمة التي تعلي من قيم الإخاء والتعاون والفوز والكسب المتبادل، وتحض على العمل لبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية في العهد الجديد.
اصطفت الحضارة العربية إلى جانب نظيرتها الصينية العريقة في المؤتمر وتشابكت أياديهما معاً في أول تناصر عملي عالمي لإنجاز أهداف مبادرة الحضارة العالمية والتي تنتظر تنفيذها كل البشرية لتحتمي بمضامينها الإنسانية السامية، لا سيما المضامين ذات الصلة باحترام تنوع الحضارات، وتعزيز التعاون الحضاري العالمي، ورعاية التراث الحضاري الإنساني وابداعاته، وتعزيز القيم الحضارية المشتركة للبشرية في العصر الجديد.
ربما بدأت تترسخ لدى العالم قناعات جديدة مفادها أن الواقع الحضاري الإنساني المعاصر هو بنيان عالمي متكامل أسهمت في رفع قواعده التاريخية القديمة عدة حضارات وأمم، وتتشارك تشكيل قيمه المعاصرة كل الشعوب والجماعات والدول، فلا ينبغي لمساحات جغرافية طرفية محدودة أن تدعي احتكار منابع العطاء الحضاري أو تتنمر في المسرح الحضاري العالمي على شعوب لم تزل هي الأكثر اسهاماً والأعمق تاريخاً والأوسع إدراكاً للحضارة وتاريخها ومعانيها وقيمها الإنسانية الخالدة.
إن التوجهات المستقبلية للحضارة العالمية التي يؤسس لها الفكر الاستراتيجي الصيني المعاصر عبر مبادرة الحضارة العالمية تختلف بصورة جذرية في مضامينها وتصوراتها وآلياتها عن تلك التي أسس لها الفكر الغربي في ماضيه البهيم والتي انتهي فيها إلى حتمية الصراع والصدام بين الحضارات، فاتحاً بذلك أبواب ومنطلقات مستقبلية جديدة للصراع أساسها الثقافة والدين والتاريخ، وقد رفضت البشرية على نحو واسع تلك الأفكار البائسة واعتبرتها غير صالحة للبقاء ولا تمت للحضارات الإنسانية وآفاقها المستقبلية بصلة.
استخلاصاً من مداولات هذا المؤتمر ومخرجاته ستظل أيادي أبناء الحضارتين العربية والصينية ممدودة ومتشوقة لمعانقة الوجود الحضاري الإنساني على امتداد العالم لبناء مجتمع المصير المشترك في العصر الجديد، لا سيما وأن للحضارتين بصمات وصفحات مشرقة على كتاب التاريخ الحضاري الإنساني الحديث.
[1] باحث في الشئون الاستراتيجية والدولية- عضو مجلس الرابطة العربية للحوار والتواصل.