شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
عبد القادر خليل*
في عالم يشهد تحديات وتوتّرات جيوسياسية متزايدة، وأزمات متشابكة تتجاوز الحدود الجغرافية، مثل اتساع الفجوات في مجالات السلام والتنمية والثقة والحوكمة. يبدو الحديث عن الحوار بين الحضارات أشبه بنداء إنساني عاجل، أكثر من كونه مجرّد شعار ثقافي أو سياسي. فالتقارب بين الشعوب، والانفتاح على الآخر، لم يعد خياراً ثقافياً بل ضرورة استراتيجية لضمان السلم والتعاون العالمي، وتعزيز الإرث والابتكار الثقافيين.
فمن خلال الحوار بين الحضارات علينا أن نصغي لبعضنا البعض، وأن نتبادل القيم والمعارف الثقافية والخبرات باحترام متبادل. إنه دعوة لتجاوز الصور النمطية، وبناء جسور التواصل لا جدران العزلة. ولأهميته البالغة وباقتراح من الصين فقد كرّست منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) هذه الفكرة بجعل يوم 10 يونيو من كل عام “يوماً دولياً للحوار بين الحضارات”، في خطوة تعكس إدراكاً متزايداً بأن التعدد الثقافي يجب أن يكون مصدر قوة واتحاد، لا تشتت وخلاف.
في هذا السياق، جاء الاجتماع الوزاري حول الحوار بين الحضارات الذي استضافته العاصمة الصينية بكين يومي 10 و11 يوليو 2025، ليؤكد على أهمية تحويل هذا المفهوم من فكرة مجردة إلى ممارسة واقعية.
أكثر من 600 شخصية من 140 دولة وإقليم، من وزراء ومسؤولين حكوميين إلى مفكرين وباحثين وممثلين عن المجتمع المدني ومنظمات دولية، اجتمعوا تحت شعار: “حماية تنوع الحضارات الإنسانية من أجل السلام والتنمية العالميين”.
وتبرز أهمية هذا الاجتماع تحديداً في هذا التوقيت الذي جاء بعد نحو شهر من أول احتفال عالمي باليوم الدولي للحوار بين الحضارات. كأن الصين تقول: فلننتقل من الاحتفاء الرمزي إلى الخطوات العملية. وتجدر الإشارة أن قرار اعتماد الاحتفاء باليوم العالمي للحوار بين الحضارات، والدي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة جاء باقتراح من جمهورية الصين الشعبية.
من جهة أخرى، ومنذ إعلانها عن مبادرة الحضارة العالمية قبل عامين، تسعى الصين إلى أن تلعب دوراً محورياً في ترسيخ التعددية الثقافية كجزء من رؤيتها للنظام العالمي الجديد.
تنظيم هذا الاجتماع يأتي انسجاماً مع هذا التوجّه، ويحمل أكثر من رسالة، أبرزها:
– أن الحوار والتعدد ليسا ترفاً فكرياً، بل أداة حقيقية لبناء الثقة والتعاون؛
– أن نموذج “صدام الحضارات” لم يعد مقبولاً، خصوصاً في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة؛
– وأن الصين هي اليوم لاعباً مسؤولاً، وشريكاً موثوقاً تًسْعَى لجمع الأطراف على أرضية ثقافية مشتركة من أجل عالم ذي مستقبل مشترك للبشرية جمعاء.
وبهده المناسبة، وجّه الرئيس الصيني شي جين بينغ رسالة تهنئة إلى المشاركين في الاجتماع، تضمّنت عدة أفكار رئيسية، لعل أبرزها دعوته إلى “تجاوز الانغلاق بالانفتاح، وتخطّي الصدام من خلال التعلم المتبادل”. كما أكد على أهمية احترام كل الحضارات، وضرورة المساواة في التعامل الثقافي، بعيداً عن أي إحساس بالتفوّق أو الإقصاء.
كلمة الرئيس شي حملت كذلك إشارات واضحة إلى ربط مبادرة الحضارة العالمية بالصالح العام للبشرية، وليس فقط كمبادرة صينية محضة، داعياً إلى ضخ زخم جديد للتقدم في الحضارات الإنسانية والسلام والتنمية العالمية، وبناء شبكة عالمية للحوار والتعاون بين الحضارات.
الاجتماع لم يقتصر على الخطابات، بل شدّد على أهمية التعدد الحضاري ورفض أي شكل من أشكال الغطرسة الثقافية؛ وإطلاق خطة عمل دولية تشمل مشاريع واقعية للتبادل الثقافي، والدراسات المشتركة، وبرامج دعم للشباب والمبدعين.
كما تميّز الاجتماع الوزاري ببكين بحضور عربي لافت، حيث شاركت عدة دول من المنطقة، من بينها الجزائر، مصر وفلسطين، وهو ما يعكس اهتمام العالم العربي المتزايد بقضايا التنوع الثقافي والتواصل الحضاري.
وقد عبّر المشاركون من الوفود العربية عن دعمهم لمبادرة الحضارة العالمية التي طرحتها الصين، مؤكدين على أهمية الحوار كوسيلة لمواجهة خطابات التطرف والتمييز الثقافي، وبناء مستقبل قوامه التعاون والاحترام المتبادل.
أما الجزائر، فقد حضرت بصفتها دولة ذات تاريخ حضاري عريق وتقاليد دبلوماسية داعمة للحوار بين الشعوب، مؤكدةً على أهمية صون التراث الثقافي المشترك، وتوسيع قنوات التبادل الأكاديمي والشبابي مع الصين والدول الأخرى. وفي كلمة عبد الكريم بن مبارك ممثل حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري المشارك في هدا الحدث الهام، أشار إلى أن الحوار بين الحضارات بات خياراً حضارياً لا غنى عنه، و رهان إنساني وعقلاني لتجاوز الصراعات والوصول إلى منطق التواصل والتكافؤ بدلاً من التميز والهيمنة. كما تُشدد الجزائر على أن التنوع الثقافي يُعد من مكونات السيادة الوطنية، وتدعو إلى مزيد من التضامن العالمي لحماية الهويات الثقافية، خاصة في البلدان النامية.
وختاما، تجدر الإشارة بأنه قد شارك في استضافة اجتماع بكين، كلّ من دائرة الدعاية والدائرة الدولية التابعتين للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وأن هذا الاجتماع لم يكن مجرد فعالية ثقافية، بل هو محاولة لإعادة تعريف الطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعامل بها العالم مع اختلافاته.
ففي زمن يطغى فيه منطق الانقسام، تأتي هذه المبادرات الصينية لتقول إن التنوع ليس تهديداً بل فرصة، وإن احترام الآخر هو الخطوة الأولى نحو بناء عالم أكثر أمناً وعدلاً وتضامناً.
لكن، كما هو الحال دائماً، يبقى التحدي الحقيقي في القدرة على ترجمة المبادئ إلى أفعال، والنوايا الحسنة إلى مشاريع واقعية تخدم الناس، وتقرّبهم أكثر من بعضهم البعض وهذا ما تسعى الصين إلى تجسيده.
*عبد القادر خليل- رئيس تحرير شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية،، عضو مجلس الإدارة في الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل،، عضو الاتحاد الدولي للصُحفيين والإعلاميين أصدقاء وحُلَفَاء الصين.