شبكة طريق الحرير الاخبارية/ الصين اليوم/
لُجين سليمان، باحثة سورية في مجال العلاقات الصينية
لم يعد التعاون الصيني- العربي مجرد فكرة عابرة كأي تعاون بين طرفين، بل إن أكثر ما يميز هذا التعاون هو أنه قد بُني على عدة مبادئ من أهمها: حاجة كل طرف إلى الآخر والرغبة في استكشاف عالم متغير، وصولا إلى المنفعة المتبادلة والربح المشترك. يجسد منتدى التعاون الصيني- العربي والذي مر عشرون عاما على تأسيسه تطبيقا عمليا للتعاون بين الجانبين الصيني والعربي، إذ إن البنود التنفيذية والآليات المتفق عليها هي عبارة عن جوانب عملية انطلقت من الحاجة إلى تقديم نموذج تعاوني جديد في عالمنا اليوم.
طرحت فكرة تأسيس المنتدى لأول مرة في عام 1999. ولم تمر فترة طويلة بعدها حتى أُعلن عن اعتماد قرار رسمي في جامعة الدول العربية عام 2000، يوصي بتأسيس “منتدى التعاون العربي- الصيني”. لتعلن كل من الصين والدول العربية بشكل مشترك عن تأسيسه في عام 2004، الأمر الذي أسفر عن انطلاق الأعمال المشتركة للجانبين رسميا. في مراحل التأسيس الأولى، انطلقت الفكرة الجوهرية من ضرورة تعزيز الحوار والتعاون بين الصين والدول العربية من خلال آليات جديدة، تساهم في إثراء العمل المشترك، لا سيما أن للجانبين الصيني والعربي تاريخا طويلا حافلا بالتعاون عبر طريق الحرير القديم. أما اليوم وبعد العمل على إحياء هذا الطريق من جديد، لا سيما بعد الإطلاق الرسمي لمبادرة “الحزام والطريق”، سيكون تكثيف التعاون بين الجانبين الصيني والعربي بمثابة فرصة لإحياء نموذج جديد من التعاون؛ تعاون صيني- عربي يقوم على مبدأ المنفعة المشتركة بما يُفضي إلى مستقبل مشترك لكلا الجانبين.
منذ عام 2006 بدأت النشاطات بين الجانبين الصيني والعربي تتوالى، من خلال عقد اجتماعات على المستوى الوزاري لتنسيق الشراكات على مختلف الأصعدة. وقد شكلت تلك الاجتماعات نقطة انطلاق نحو تأسيس آليات للتعاون في ثمانية عشر مجالا؛ تلك المجالات التي بدأت في الجانب الاقتصادي وامتدت لتشمل الجوانب الثقافية والتعليمية. وأما اليوم بعد مضي عشرين عاما على انطلاق أعمال المنتدى، والذي مر بمراحل متعددة من الحوار إلى التدريب والتأهيل، وصولا إلى اتفاقيات وشراكات إستراتيجية، يمكن القول إن نموذجا جديدا للتعاون في العصر الجديد قد بدأ بشكل فعلي.
عند البدء بالحديث عن أي آلية للتعاون، لا بد من التوقف عند المفهوم الصيني للتعاون القائم على مبادئ افتقدتها دول الشرق الأوسط منذ عصور، لا بل قد يكون مفهوم “التعاون” وعلى مر العقود الماضية قد فقد معناه الحقيقي نتيجة لخضوعه للتشويه الناتج عن اعتماده على الفوائد أو المنافع الأحادية الجانب، التي تعود بالربح لطرف على حساب الآخر. لا سيما أن تاريخ التبادلات التجارية والاتفاقات الاقتصادية في العالم كانت أشبه بمبادلة “إناء من حديد بإناء من فخار”، على حد تعبير “جان ألبرتيني” في كتابه “التخلف والتنمية في العالم الثالث”. وفقا للرؤية الصينية، فإن التعاون بين الدول ينمو ويتعزز من خلال التعامل مع كل طرف وفقا لمزاياه وخصائصه بعيدا عن أسلوب الفرض. يقول المثل الصيني القديم: “لا تتمكن الكائنات الحية من الاستمرار إذا كانت متماثلة ومتشابهة”، وهي دعوة ضمنية للتعاون مع الآخر بناء على قاعدة مشتركة بغض النظر عن الاختلافات. و”الانسجام” هو مفهوم غني وفقا للحكمة الصينية، فهو بمثابة أساس مهم لتعزيز بناء مجتمع المستقبل المشترك. انطلاقا من أن المبدأ الذي اعتمدته الصين في نهضتها الحديثة والذي يقوم على تحويل الكلام إلى أفعال، يمكن القول إن التعاون الصيني- العربي من خلال هذا المنتدى يشكل فرصة مهمة لنقل التجارب الغنية للجانبين من حيز التفكير إلى الواقع العملي. فالصين في العصر الجديد، وعلى الرغم من كل ما حققته من حداثة وتطور، لا تنسلخ عن ماضيها الذي كان كفيلا بتقديم تجارب جعلتها تدخل العصر الجديد بكل ثقة، بل أكثر من ذلك جعلتها تبني تعاونا مع الآخرين بناء على ما يتطلبه العصر الحالي، وبما يفضي إلى نموذج تعاوني جديد على الساحة الدولية. فمعظم ما تطلقه بكين اليوم من مفاهيم للشراكة ناتج عن فلسفة صينية قديمة خضعت لسلسلة من التجديد، حتى باتت تساهم في تكريس مفاهيم جديدة. ولعل أشمل مفهوم يكرس رغبة الصين في التعاون وتحديدا التعاون الصيني- العربي هو “مجتمع المستقبل المشترك الصيني- العربي” الذي نشأ ليس من رغبة في التوافق فحسب، وإنما أيضا لحاجة وضرورة. فحتى اليوم مازالت الصين والدول العربية تُعد دولا نامية وقوى سياسية مهمة على الساحة الدولية، وتواجهان فرصا وتحديات تاريخية متماثلة، ومن المهم أكثر من أي وقت مضى للجانبين تعزيز التعاون والتغلب على الصعوبات معا، والمضي قدما في تحقيق الأهداف المشتركة.
وبهذا يمكن القول إن التعاون الصيني- العربي وفقا لآليات “المنتدى”، يشكل فرصة لخلق حالة مبتكرة من العمل المشترك القائم على مبدأ الربح لجميع الأطراف. إذ إنه وعلى مر العقود الماضية، عانت الدول العربية من مصاعب متعددة ناتجة عن حاجتها إلى ما يلبي تطلعاتها ومصالحها الوطنية بعيدا عن الاستغلال. ولعل تلك الحاجة هي أبرز ما رسخ أفكار التعاون الصيني- العربي خلال فترة وجيزة. فتحديدا في ظل ما يعيشه العالم من تخبط ناتج عن حالة عدم الاستقرار، والتي قد تكون ولادة نظام عالمي جديد أحد أبرز أسبابها. بدأت تظهر فجوات لم يعد بمقدور النظام العالمي الراهن تلبيتها، وهو ما يؤكد على الحاجة إلى وجود نموذج تعاون جديد، يقدم مفاهيم مختلفة حول آليات العمل المشترك بين الدول. وهنا لا بد من ذكر ما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ بمناسبة حلول العام الجديد: “إن الصين لا تطور نفسها فحسب، وإنما أيضا تحتضن العالم بنشاط وتتحمل مسؤوليتها كدولة كبرى.” ولذلك، وباعتبارهما شريكين إستراتيجيين، يتعين على الصين والدول العربية ترسيخ روح الصداقة الصينية- العربية والمضي بها قدما، وتعزيز الوحدة والتعاون، وبناء مجتمع صيني- عربي أكثر تلاحما نحو مستقبل مشترك، من أجل تقديم الفائدة إلى الجانبين وتعزيزها بشكل أفضل.
يقول المثل العربي القديم: “إذا كان الكلام هو أوراق الأشجار، فإن الأفعال هي الثمار”. وقد أثبتت التحركات الفعلية على أرض الواقع، التي تحققت منذ تأسيس المنتدى وحتى اليوم، أن الاجتماعات والحوارات التي تمت في إطار منتدى التعاون الصيني- العربي قد ترجمت إلى أفعال. ولعل أبرز ما يرسخ فكرة التعاون تلك هو الحاجة إلى مفهوم تنموي جديد، ينقل الدول العربية إلى حالة أخرى أكثر تقدما. إن الصين، وعبر ما تطرحه من مفاهيم تنموية، تساهم في تكريس حالة جديدة؛ ألا وهي أهمية التنمية في تمكين الشعوب، وتحديدا التنمية المتمحورة حول الشعوب، وهو ما يمتن هذا التعاون لأنه ناتج عن حاجة فعلية، ورغبة في الاستفادة من التجربة الصينية.
واليوم، وفقا لآليات المنتدى، بدأ التحرك الفعلي في التوجه نحو العمل على إقامة تعاون في عدة مجالات. وعلى الرغم من أهمية التعاون الاقتصادي، وتحديدا في مجال البنى التحتية فإن التعاون في المجال الثقافي بما يسهم في إقامة تواصل حضاري، لا يقل أهمية عن أي تعاون. ومع استمرار التواصل بين الجانبين على المستوى الحكومي والشعبي، سيتم تكريس نوع جديد من التواصل. وقد يكون للرؤى المشتركة دور كبير في تسهيل المواءمة والملاءمة، فعلى سبيل المثال إن للتكامل في الأهداف بين مبادرة “الحزام والطريق” والخطط المستقبلية التي وضعتها عدد من الدول العربية، أثرا كبيرا في زيادة عدد النقاط المشتركة التي تجمع بين رؤى الجانبين، وهو ما يشكل أساسا قويا للانطلاق في خطوات أبعد تساهم في ترسيخ العمل المشترك، وفقا للإطار العام الذي وضعه المنتدى. وبذلك فإن منتدى التعاون الصيني- العربي، يتميز بأمرين اثنين: الأول هو الحاجة إلى نوع مختلف من التعاون، والثاني هو التكامل في الخطط المطروحة بين الجانبين الصيني والعربي.
لقد شملت بنود التعاون الصادرة عن المنتدى عدة جوانب:
تاريخيا، وعبر طريق الحرير، سافر الخزف الصيني وصناعة الورق والطباعة غربا، كما سافر علم الفلك والتقويم والطب العربي آلاف الأميال باتجاه الشرق. وقد نشر الشعبان الصيني والعربي نتائج التبادلات الحضارية في جميع أنحاء العالم، وهو ما ساهم في تعزيز تنمية وتقدم البشرية في مرحلة معينة من التاريخ. واليوم، ها هو هذا التعاون يعود مجددا، وقد يحقق في المستقبل تواصلا حضاريا كبيرا عبر الرؤى المتكاملة والتي تتجسد بشكل كبير من خلال منتدى التعاون الصيني- العربي.
أخيرا، بناء على كل ما سبق، لا بد من الإِشارة إلى أنه يعول على المنتدى في إجراء تغييرات إستراتيجية عميقة وشاملة على صعيد التعاون بين الجانبين، بما يؤدي إلى تكريس نموذج تعاون عالمي على الساحة الدولية، وبما يؤدي إلى ظهور مفاهيم جديدة لفكرة “التعاون” عالميا.
*مصدر: مجلة الصين اليوم.