شبكة طريق الحرير الاخبارية/
للكاتب الأذربيجاني / مير مهدي آغا أوغلو
(1982م)
الكاتب الأذربيجاني الشاب. تخرج في كلية المحاسبة بجامعة الاقتصاد الحكومية الأذربيجانية عام 2004م. عمل محررا في مجلة “Kulis.az” الإلكترونية في الفترة ما بين 2012-2018م. حاليا يعمل في وكالة الأنباء الأذربيجانية “APA“. له عديد من القصائد والقصص. صدر أول قصصته عام 2005م. فازت قصته “اليوم الخامس” بالمركز الأول في مسابقة “القصص القرآنية”.
وأخيرا… قرّب الكارت من بوابة مرور الأفراد بعد أن مر ببوابة زجاجية، أصدرت البوابة صوت الصأصأة المزعج للغاية، كم من مرة سمع هذا الصوت؟ لا يعد ولا يحصى.
كان الجو دافئا ومشمسا. وبدأت علامات فصل الربيع تظهر. وكانت براعم صغيرة على أغصان الأشجار تلمع مثل الحجر الكريم للخاتم. لقد تملكته رغبة جامحة لمشاهدة هذه المناظر، لكنه لم يتمكن من الاستمتاع بها أكثر من عشر دقائق خلال اليوم. كانت الفاصلة لثلاث دقائق لا أكثر.
ابتعد عن البوابة ودنا من ناصية المبنى، أشعل سيجارة ووقف تحت شجرة الدلب التي مالت إلى نهر الطريق.
إنها سيجارته الأولى منذ الصباح. فهو كان يعاني من السعال الشديد المصاحب للبلغم الملون، وكان كل صباح عند استيقاظه من النوم يسرع إلى الحمام للتخلص من هذا البلغم المزعج. وكان يرى أن مثل هذا السلوك غير لائق للمرء، وبما أنه لم يكن قادرا على الإقلاع عن التدخين، فقد قرر تقليله تدريجيا.
كان قدر المستطاع يحاول في تأخير سيجارته الأولى في اليوم. وسارت الأمور على خير في اليومين الأولين، لم يشعل سيجارته الأولى إلا بعد الساعة الحادية عشرة صباحا. أما اليوم فأخل بوعده بنصف ساعة، ولم يعد يطيق صبرا أكثر من ذلك.
فقد أرهقه التوتر في العمل، تجادل مع المحاسب مرة أخرى، لا يمكن أن يعملا في وئام، كان المحاسب يلقي على كاهله أثقال العمل لم تشغله خلال ساعات الدوام فقط، بل وأيضا بعد العمل طول اليوم. عندما كان في العمل لم يقدر أن يفكر في أشياء أخرى. وكان متحيرا تماما عند خروجه للتدخين لبرهة قصيرة. ومهما حاول أن يشغل باله بأمور عائلته، والمعيشة والهموم اليومية إلا أنه لم ينجح في التخلص مما يتعلق بعمله الرسمي. كان لا يستطيع رؤية حتى ما يدور حوله من أمور بشكل صحيح. وكأنه أصبح كل شيء بما فيه الأشجار، والسحب، وسيارات مارة في الشوارع غير مألوف على عينيه، اللهم إلا الحاسوب الذي كان يحدق فيه خلال ساعات عمله.
وفي بعض الأحيان النادرة كان يتصل بزوجته عند خروجه للتدخين. وقد تعوّد بشكل أساسي على الاتصال بعائلته في فترة الغداء. ولكنه لم يقم بذلك ليطمئن على زوجته وأولاده، أو لرغبته فيه، بل كان يقوم بذلك بمجرد أنه أصبح عادة عنده.
كلما فرغ من عمله وآوى إلى فراشه ليلا، وأسرع إلى عمله صباحا فإنه كان يلوم نفسه، ويقرر في نفسه الاتصال بأصدقائه وأقربائه ولو في فترة التدخين، ولكنه كان ينسى أن يقوم بذلك مرة بعد أخرى. وكان من كثرة انشغاله بعمله يبتعد عن جميع هؤلاء أكثر فأكثر يوما بعد يوم. ومن سوء حظه لم يقتنع أحد لما كان يقدم من الاعتذار، ولم يصدق أحد بأنه مشغول في العمل بمعالجة أكوام من الأوراق. وكان يرتاح لفترة التدخين، ففيها كان يتمكن من إلقاء عبء العمل من على كاهله.
المهم… فقد أشعل سيجارة يدخنها ويشاهد ما حوله من سيارات ومارة من النساء والرجال. وكان ينظر إلى السحب في السماء بين وقت وآخر ويسرح عقله. كان يفكر ويقول في نفسه، “سأدخل الآن غرفة عملي وقد يثار الضجيج والدوشة من جديد. حاول نسيان كل شيء وهو يكبت خوفه بداخله.
بدى رجل في البعيد عند إشارة المرور، يمسك بيمينه عددا من سكاكين ويحمل بشماله شنطة كبيرة. خمن أنه سوف يقترب منه، وقد وقع عين الرجل عليه من اللحظة الأولى.
وبالفعل اقترب منه وعرض عليه أن يختار من بين السكاكين قائلا:
– يا أخي خذ واحدا من هذه السكاكين.
– لا أريد… وظن أن بائع السكين سوف ينصرف.
كان الرجل يمسك بيده سكاكين المطبخ مقابضها بلون أحمر وأزرق وأسود وعلى ما يبدو صُنعت يدويا، علاوة على زَرَدِيَّتَيْنِ أحمر المقبض، ومبرد دائري بين أصابعه النحيفة الطويلة، وعلق عليه مقصات مختلفة الألوان. كان الرجل نحيفا، قصير القامة… هدومه مهترئة مثل سائر باعة متجولين.
كان “وليد” يرى أمثال هؤلاء كل يوم مرة واحدة على الأقل. إنهم يتجولون في الشوارع، ويدخلون الشركات، والدكاكين، ويمرون بالمدارس والبيوت حاملين الشنط الكبيرة ويعرضون للناس بأسعار مناسبة ما عندهم من أوان، والزعتر() وبعض العشاب الطبية، وأدوات منزلية صغيرة، وعطور رخيصة.
قال الرجل مرة أخرى:
– يا أخي اشتر سكينا.
– يا عم أنا في العمل، ماذا أفعل بهذا السكين؟
– قد تحتاج.
– هل أنا جزار؟
وألح الرجل:
– خذ ستحتاج إليه في المنزل، لم أبع منذ الصباح شيئا، كن أول من تشتري مني…
يبدو أنه عقد العزم على عدم تركه.
وعندما قال الرجل “المنزل” تذكر “وليد” بأنه كان يريد الاتصال بعائلته. وقد خرج من البيت بعد أن نشبت مشاجرة بينه وبين زوجته بسبب تافه، فقرر وهو في طريقه إلى مقر عمله أن يتصل بها ويعتذر إليها ويأخذ بخاطرها.
– لا أملك مالا، شكرا.
لكن الرجل لم ينصرف وما زال يلح رغم كل ما قدم له “وليد” من الاعتذارات.
– إذا ليس لديك مال خذ السكين مجانا، خذه وأعطني أي مبلغ يخطر ببالك، على كيفك.
– لا أريد.
تعال خذ، أعطني بقشيشا.
أخذ نفسا عميقا من السيجارة ثم ألقى عقبها تحت شجرة الدلب واستدار راغبا في المغادرة، إلا أن الرجل بادره ووقف أمامه وحال دون مغادرته.
– خذ يا رجل، سوف لا تندم، وأعطني بقشيشا.
وقد مس نصل السكين الذي مسكه البائع بطن “وليد”، ولكن الرجل كان لا يشعر بذلك، وكاد منظرهما يستلفت الأنظار ويظن الرائي أنه يريد طعنه في بطنه. وكان الرجل يكرر بإلحاح:
خذ… خذ، أعطني بقشيشا على الأقل.
لم يعد يطيق “وليد” صوته، فقد بدأ يزعجه أكثر من صأصأة بوابة مرور الأفراد. ولسوء الحظ ترك “وليد” محفظة النقود في غرفة عمله، لم يكن في جيبه حتى مَنات() واحد كي يعطيه إياه ويتخلص منه.
خذ… لِمَ لا تأخذ؟ خذه للمنزل.
كان يريد أن يدفعه لكي يبعده عنه وإذا بسكين سقط من يد الرجل ووقع في يد “وليد”. لقد ضايقته وقاحة البائع. كان عليه أن يقوم بمعالجة أكوام من الملفات المختلفة في العمل. فقد خرج إلى الشارع للتخلص ولو قليلا من ضغوط العمل، وليستمتع بالهواء النقي وضوء الشمس التي يراها في الصباح الباكر والمساء عند غروبها، ولكن هذا الرجل الوقح حرمه تلك المتعة. سيعود إلى العمل وسيعمل بلا توقف مثل قطار الأنفاق، ويمضي يوم مشمس جميل في الخارج دون أن يشعر به.
– أعطني بقشيشا..
ضغط “وليد” بغضب على مقبض السكين، وشعر بألم في ذراعه من شدة التوتر. لماذا دس الرجل السكين في يده، كيف أعيده إليه؟ الجدال معه يستغرق خمس دقائق على الأقل؛ خذ السكين.. لا أحتاج.. أعطني بقشيشا..
صوب السكين نحو الرجل فطعنه في سُرّته:
– خذ، هذا هو البقشيش.
تضرج قميص الرجل الأبيض على بطنه بالدم. انحنى الرجل على الأمام وتمايل بجسمه. وضغط على الأشياء التي كانت في يده، وشد عضلات وجهه. وعندما أراد الإنحناء إلى عود شجرة الدلب مسكه “وليد” وساعده في جلوسه مسترخيا على الشجرة.
اقتعد الرجل الأرض بصعوبة. وسقط كل ما كان بيده، ثم أمسك بطنه، فرفع رأسه ونظر إليه نظرة يأس وندم. اختلس “وليد” النظر يمينا وشمالا في هلع بالغ، لم يكن هناك أحد بالقرب منهما. وكان حارس السيارات بعيدا، وفي نفس الوقت فقد انشغل بسيارة، حيث يساعد سائقها في الخروج من بين السيارتين. وفكر في نفسه أنه طالما لا أحد هناك عليه أن يسرع في الدخول. وكاميرات المراقبة الأمنية لا تغطي هذا المكان.
– هذا ما تستحق يا لئيم، من قال لك أن تفسد لي استراحتي وتؤثر على أعصابي؟
ألقى نظرة أخيرة على وجه الرجل.
قال الرجل بصعوبة في صوت مبحوح:
– يا لها من ضربة عنيفة. بئس ما صنعت
قرّب الكارت من بوابة مرور الأفراد ونظر إلى الساعة وهو يدخل، مضت خمس دقائق منذ خروجه، فقد طالت استراحته اليوم..
قصة “استراحة”
للكاتب الأذربيجاني / مير مهدي آغا أوغلو
ترجمها من الأصل إلى اللغة العربية “فريد صابر جمالوف”.