شبكة طريق الحرير الإخبارية/
للكاتب الأذربيجاني “محمود آغاكيشييفش”
* ترجمها من الأصل إلى اللغة العربية “فريد صابر جمالوف“.
يعرف جميع معارفي أنني ممن يحافظ على رباطة جأشه في مواقف صعبة، لا أهتم ولا أبالي بما يحدث حولي. فإن الحياة ليست بيدنا، ولا مفر من القدر. قد تحب وقد تفترق، وقد تصبح غنيا وقد تفقر، وقد يدركك الموت بغتة، كل شيء يحدث. لا يستحق أن تشغل بالك بأشياء تافهة، كل نفس ذائقة الموت… آخرة كل كائن حي الموت عاجلا أم آجلا. ولكن لماذا بدأت أتحدث عن الموت؟ في الحقيقة، أنا جدا أخاف من الموت، إذا ذُكر الموت عندي يعتريني الخوف الشديد ويقشعر جلدي…
يقولون إن الإنسان يسمع ما يدور حوله ثلاثة أيام بعد رحيله عن الحياة. والحق يقال، أظن أن هذا غير معقول، وهل يمكن ذلك؟ لكن على أي حال، سوف أوصي بتأخير جنازتي، تأخير جنازتي لمدة ثلاثة أو أربعة أيام. كل شيء ممكن… لا، لست ساذجا لهذه الدرجة، أعرف أن الوصية لا تُنفذ في معظم الأحيان. أعرف، بمجرد أن أفارق الحياة سيسرع أهلي وأصحابي في مراسم دفني، ويستدعون أحدا من المسجد حتى يقوم بما يتعلق بغسل الميت وتكفينه ودفنه بعد أن يقرأ سورة “يس”. وبعد فراغ من مراسم دفني يتفرق الجميع ويذهب كل في سبيله… نفترض أنني بُعثت حيا… يا ترى ماذا سأفعل؟ حقا، ماذا لو عادت روحي من جديد؟! كثيرا ما سمعت أن هناك من يعود إلى الحياة بعد يوم من وفاته. لا أدري ماذا عنكم، لكنني أصدق ذلك. ولم لا؟ كل شيء ممكن. يجب أن أوصي بألا يضعون القطن في فمي. أ لستُ أنا الذي توفيت؟ هذا رغبتي أنا. أعرف أن الوصية لا تنفذ ولكن… نتخيل أنني رجعت إلى الحياة من جديد، وبدأت أصرخ، من يسمعني؟ من يسمع صوتي من تحت التراب؟ آه، لا أدري، إنها مسألة محيرة…
لا تلقوا بالا إلى ما أقول، في الحقيقة، أفهم جيدا أنني أيضا أفارق الحياة في نهاية الأمر. لكن للموت أنواع مختلفة. على الإنسان أن يعيش حياة ميمونة، يشرب ويأكل، ويتجول ويتنعم بنعم الله، ويضع كل شيء مكانه، ويرتب كل أموره، وبعد ذلك يلبي دعوة ربه وباله مرتاح على عكس العم “أفغان”. مسكين، العم “أفغان” توفي في وقت غير مناسب… هناك مقولة انتشرت بين الناس بشكل واسع، وهي “فلان مات في وقت غير مناسب”، ولكن العم “أفغان” حقا، فارق الحياة في وقت غير مناسب. لماذا مات في هذا اليوم بالذات؟ لو مات مثلا قبل ذلك اليوم بيوم واحد فقط لما كنت أتأسف كما الآن…
من الأفضل أن أبدأ من البداية حتى يتضح الأمر… كان العم “أفغان” – كان الجميع كبيرا وصغيرا يناديه هكذا – يتسول عند موقف أتوبيس، بقرب من مقر عملي. نعم، كان المسكين يتسول. وقد تعرفت عليه هناك. بالمناسبة، أحب الالتزام بالمواعيد ولا أحب أن أتأخر عن موعد العمل، ولم عليّ أن أتأخر؟! إذا استيقظت من النوم مبكرا بساعة، هل تنهار الدنيا؟ طبعا لا، بل أصل إلى العمل في الموعد، وحتى قبله بساعة وأقف عند الباب الرئيسي أنتظر إلى أن يفتح الباب.
وكان العم “أفغان” أدق مني بكثير في الالتزام بالمواعيد، كان يأتي إلى موقف أتوبيس كل يوم في الصباح الباكر. وعند وصولي إلى هناك ونزولي من الحافلة كنت أراه وهو يدخن سيجاره على الريق. كنت أسأل عن حاله بعد إلقاء السلام عليه، ثم أقف معه وأنتظر وصول صاحب الكشك ليفتحه، كنت أشتري منه صحيفة فيها لعبة للكلمات المتقاطعة. أصبحت تلك العبة عادة عندي في الوقت الأخير، ولكنني مللت منها أيضا. وكيف لا أمل؟ أقوم بنفس العمل كل يوم. يمكنك مشاهدة نفس الأشخاص في موقف أتوبيس هذا كل يوم في نفس الوقت. وقد تعودنا أن نرى بعضنا البعض في هذا المكان لدرجة أنه إذا غاب أحد منهم نشعر بالقلق تجاهه، ونتساءل: “هل حدث له شيء؟ هل مرض؟ يا ترى، هل أصابه مكروه؟” نتبادل التحية والكلام كل صباح. لكننا لا نطنب في الكلام، لأنه كان يدور في الموضوعين فقط؛ في حالة الطقس ووصول الحافلات متأخرة. والغريب في أنه كان هؤلاء الناس يتذمرون دائما من أحوال الطقس المختلفة، فإذا كان الجو باردا يمتعضون من البرد، وإذا كان الجو حارا يشتكون من الحرارة. والله إنهم غريبو الأطوار! وأما أتوبيس فكان يتأخر دائما. ولكن العم “أفغان” كان بخلاف لهؤلاء إنسانا متفائلا: يبتسم دائما بغض النظر عن أحوال الجو، وأحيانا كان يدلك رجليه وهو يتنبأ بحالة الطقس قائلا:
آه، نسيت أن أقول، إن العم “أفغان” كان معوقا، يتحرك بكرسي متحرك. كنت أتبسط معه في الحديث كل صباح وأنا أنتظر فتح الكشك. إنني على علم بكل تفاصيل حياته. عمل العم “أفغان” في وظائف جيدة، وقد حالفه الحظ لفترة، وكما يقول كان محظوظا جدا. عين مديرا لمصنع العصير عندما بلغ من العمر 24 عاما. عاش عمره بضمير مرتاح، لم يختلس من أموال الدولة أبدا. لكن لسوء حظه، أصيب في سنه الثلاثين بإنفلونزا فأصبح طريح الفراش، وبعد ذلك فقد الإحساس في الرجلين. يا له من حظ! وبعد فترة قصيرة تركته زوجته. ولكنه ينفي ذلك ويقول إنه هو الذي افترق عنها. لديه بنت واحدة فقط. تزوجت من شاب ثري. كان العم “أفغان” يقول إنها أرادت أن تأخذه إلى بيتها حتى يسكن معها وزوجها لكنه رفض ذلك. يقول: “لا أريد أن أثقل على كاهل أحد، على أي حال، سأفوز قريبا بالجائزة الكبرى ليانصيت، وعندئذ سأسافر إلى ألمانيا لمعالجة رجليّ.
آه، فاتني أن أذكر أن العم “أفغان” كان مولعا بلعب اليانصيت. كان يشتري أكثر من تذكرة كل أسبوع. كان يتسول حتى الظهر، وبعده ينصرف إلى منزله. كدت أن أنسى، إن العم “أفغان” ليس له بيت. حكى لي في أحد الأيام أنه بنى لنفسه بيتا بالمال الذي جمعه بعد جهد جهيد. وفي أحد الأيام في رائعة النهار اصطدمت شاحنة من طراز “كاماز” ببيته وهدمته بالكامل. يا له من حظ! ولم يصب سائق الشاحنة بأي إصابة، لم ينزف حتى أنفه. وقد بذل العم “أفغان” الكثير من الجهود للحصول على حقه وهو يتردد على جهات معنية، لكن دون جدوى، لأن البيت لم يكن له أي مستندات. الحق يقال، كنت لا أفهم العم “أفغان”، كيف يعتبر نفسه محظوظا؟
كنا نعطي شيئا من المال للعم “أفغان” كل صباح، كنا نعطيه نقود صغيرة، وهو بدوره لا يقبل إلا الفكة. وكان يدعو لنا كلما أعطيناه إياها. يقول الناس إن أمورهم تجري على أفضل ما يرام بعد إعطائهم له الفكة. لست متأكدا مما يقولون، في الواقع ما جربت هذا الشيء، لكني لا أستبعد ذلك، فكل شيء ممكن.
ماذا كنت أقول؟ آه كنت أقول إن العم “أفغان” إنسان متفائل جدا. كان يهتم بهدومه شديد الاهتمام، كانت ملابسه نظيفة ومكوية دائما. وكان يحلق ذقنه كل يوم، ما رأيته غير حليق قط. وشعره جميل، أسود وكثيف، وممشط في كل آن، يبهر من رآه…
كان رجلا غريب الأطوار، سيئ الحظ وعديم البخت وحياته مليئة بالفشل. هل يُعقل أن يفقد إنسان الإحساس في الرجلين بمجرد أن يصاب بإنفلوانزا؟ حسنا، نفترض أن زوجته لديها مبرر، لم ترد تضيع ما بقي من عمرها وهي تخدم زوجها المعوق، وماذا عن بنته؟ أظن أنه لا مبرر لها. صحيح أن العم “أفغان” يقول إنه من رفض العيش مع عائلتها في بيتها، ولكنني متأكد من أنه يكذب، تقول عيناه عكس ما يقول لسانه. وكذلك أفهم تماما أنه يصعب على أب الاعتراف بأن بنته تركته أيضا. لكنني لا أفهم كيف يمكن للرجل أن يقول: “أنا محظوظ جدا في هذه الحياة”، ويكون لديه أمل في أن يربح الجائزة الكبرى لليانصيت بعد أن أصابته تقلبات الدهر وصار لا يملك شيئا بعد أن كان عزيزا وذا مال وجاه؟
أطلقوا على اليانصيت اسما غريبا “الحظ”، وهل هذا الرجل محظوظ؟ الحظ بعيد عنه كل البعد. أحيانا كنت أرغب في القول – “انس هذه الفكرة يا عم “أفغان”، لا يمكن أن تربح الجائزة الكبرى، من أين لك هذا الحظ يا رجل؟! من الأفضل أن تأوي إلى دار رعاية المسنين وترتاح فيها. لا يشفى جرحك بالقروش التي يعطيك الناس، تحصل على بعض من المال القليل وتصرف كله في شراء تذاكر اليانصيت… ولكن، هل يمكنني أن أقول هذا للعم “أفغان”، هل يمكن ذلك؟ لا، مستحيل، فالرجل على يقين من أنه سوف يربح الجائزة الكبرى. كلما أعطيناه الفكة قال بثقة كبير: “لا تقلقوا سأعيد لكم المال قريبا… بمجرد أن أحصل على الجائزة الكبرى سأعيد لكم كله… وقد بدأ الجميع يعتقد أن العم “أفغان” بالفعل سيفوز بالجائزة الكبرى عاجلا أو آجلا. وليس هذا اليوم ببعيد، ولربما يفوز بهذه الجائزة في السحب المقبل…
كان العم “أفغان” يقترب من الكشك كل صباح بعد يوم السحب للجائزة الكبرى حاملا تذكرة اليانصيت ليعرف النتيجة، وإذا علم بعدم ربحه هذه المرة أيضا لا يحزن أبدا، ويتمتم فقط:
– لا بأس، إذن ليس بنصيب… إن شاء الله في المرة القادمة.
مرت أربعة أو خمسة أيام، ما رأيت العم “أفغان” خلالها قط. والحق يقال بدأنا جميعا نقلق ونتساءل عنه. لا أحد عند هذا الرجل المسكين… من يعرف ماذا حدث له، لربما أصيب بمكروه ما. فقصدت الكشك لأسأل صاحبه عن العم “أفغان”، أكيد أنه يعرف سبب اختفائه تلك الأيام، فليس لديه مكان يذهب إليه إلا هذا الموقف لأتوبيس. اقتربت من صاحب الكشك وسألته:
* ترجمها من الأصل إلى اللغة العربية “فريد صابر جمالوف“