شبكة طريق الحرير الإخبارية/
بقلم الصحفية الصينية سعاد ياي شين هوا
في شرق الصين تقع مدينة دونغيينغ، مدينة جمعت بين صلابة الصناعة وجمال الطبيعة. نشأت هذه المدينة بفضل النفط، لكنها اليوم تعيد تعريف نفسها من خلال التحول الأخضر والتنمية المستدامة. ففي ستينيات القرن الماضي، اكتُشف في هذه المنطقة ثاني أكبر حقل نفطي في الصين، وهو حقل شنغلي، الذي لعب دوراً محورياً في ضمان أمن الطاقة الوطني، وساهم في ازدهار الصناعة الصينية الحديثة. لكن مع مرور الوقت، واجهت دونغيينغ، مثل العديد من المدن المعتمدة على الموارد، سؤالاً حتمياً: كيف يمكن أن تتعايش التنمية الاقتصادية مع حماية البيئة؟
الإجابة جاءت من داخل هذه الأرض، من حيث يلتقي النهر بالبحر، ومن حيث تتلاقى رؤية الصين مع التجربة المحلية. فبفضل مفهوم “الجبلان” الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ –”المياه الصافية والجبال الخضراء هي ثروة ذهبية”، بدأت دونغيينغ رحلة جديدة نحو التوازن بين الاقتصاد والطبيعة. هذا المفهوم لم يبقَ شعاراً سياسياً، بل تحول إلى نهج عملي يقود عملية التحول البيئي في حقول النفط وفي المدينة كلها.

في حقل شنغلي، يجري اليوم تطبيق خطة “التراجع، والتحسين، والمعالجة”: التراجع عن الحقول القديمة الواقعة في المناطق المحمية، اعتماد التكنولوجيا الذكية في الاستخراج لرفع الكفاءة وتقليل الانبعاثات، ومعالجة الأراضي الرطبة المتضررة لإحياء النظام البيئي من جديد. كما يقول أحد المسؤولين في الحقل:” لم نعد نكتفي باستخراج النفط، بل نعمل أيضاً على إصلاح الطبيعة. هدفنا هو زيادة الإنتاج دون زيادة الاستهلاك، وتحقيق تنمية أنظف وأكثر استدامة.” هكذا أصبحت الطاقة والنظام البيئي وجهين لعملة واحدة في هذه المدينة.
لكن التحول لم يقف عند الصناعة، بل امتد إلى الفضاء الطبيعي بأكمله. تقع دونغيينغ في دلتا نهر هوانغخه-النهر الأصفر، وهي واحدة من الأنظمة البيئية النادرة في العالم ذات المناخ المعتدل الدافئ. كل عام، تعبرها أكثر من ستة ملايين طائر مهاجر، من بينها أنواع نادرة مثل الكركي المتوج وطائر اللقلق الشرقي. ولهذا السبب، منحتها الأمم المتحدة لقب “المدينة الدولية للأراضي الرطبة.” وكما قالت سون يانيان، المهندسة العليا في مكتب الموارد الطبيعية والتخطيط لمدينة دونغيينغ :
“الأراضي الرطبة هي شريان حياتنا. نبحث باستمرار عن توازن بين الحماية والاستخدام، لنحافظ على الطبيعة ونمكّن الناس من الاستفادة من خيراتها”.

هذا التوازن بين الحماية والتنمية لم يخلق عبئاً اقتصادياً، بل أطلق طاقات جديدة. فالأراضي الرطبة في دونغيينغ أصبحت اليوم مصدراً للازدهار البيئي والاقتصادي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك سلطعون دلتا النهر الأصفر الذي يحمل علامة الجودة البيئية، وقد بدأ تصديره إلى دول عربية مثل الإمارات العربية المتحدة، وإلى تايلاند وسنغافورة. ويقول وانغ يينغزه، المدير العام لشركة هويزه الزراعية بمدينة دونغيينغ:
“حققنا هذا العام اختراقًا في تصدير سرطاناتنا إلى الخارج. أصدقاؤنا العرب أحبّوا هذا الطعم القادم من النهر الأصفر، وهذا عزز ثقتنا بإمكانات الاقتصاد البيئي.”
وليس السلطعون وحده من يعبر الحدود، بل حتى القصب الذي ينمو في الأراضي الرطبة بدونغيينغ تحوّل إلى رمز ثقافي. فحرفة “النسيج بالقصب” ذات التاريخ الممتد لأكثر من ستة قرون، أصبحت اليوم تصدر إلى أكثر من عشرين دولة، بينها الإمارات والسعودية. تقول شيو زونشيا، الحرفية لفن نسج القصب في مدينة دونغيينغ:
“هذه الأعمال ليست مجرد حرفة، بل هي تجسيد لفلسفة بيئية. حتى زبائننا في دبي قالوا إنهم يشاهدون في هذه المنتجات جمال الطبيعة الصينية.”
إن تجربة دونغيينغ لا تقتصر على كونها قصة نجاح محلية، بل تمثل صورة مصغرة لـ التحديث الصيني بأسلوبه الخاص. فهي تُظهر أن التنمية الصناعية والبيئية ليست خيارين متعارضين، بل يمكن أن يتكاملا في إطار رؤية طويلة المدى. وفي إطار مبادرة الحزام والطريق، أصبحت دونغيينغ جسراً للتعاون الأخضر بين الصين والعالم العربي، من تبادل الخبرات في الطاقة النظيفة، إلى التعاون في حماية البيئة، وصولاً إلى التواصل الثقافي والإبداعي.
من مصب النهر الأصفر إلى ضفاف النيل، ومن الصحراء إلى الأراضي الرطبة، تحمل دونغيينغ رسالة واضحة للعالم: أن المستقبل لا يبنى على استنزاف الطبيعة، بل على التعايش معها. إنها تقدم للعالم نموذجاً يؤكد أن التنمية الخضراء ليست ترفاً، بل ضرورة. فحين تجتمع التقنية مع الحكمة، يمكن للطاقة والطبيعة أن تتنفّسا معاً، وأن تبنيا مستقبلاً مشتركاً أكثر ازدهاراً وإنسانية.