شبكة طريق الحرير الإخبارية/
بقلم : المهندس غسان جابر.
في الشرق البعيد، حيث تلتقي الحكمة القديمة مع قوة القرن الحادي والعشرين، تتحرك الصين ببطء وهدوء، لكنها حين تقرر الدخول إلى الساحة لا تكتفي بموقع المتفرج. وغزة، التي اعتاد العالم أن ينظر إليها كأرض محاصرة تحت الركام، صارت في نظر بكين منصة اختبار لنفوذٍ دبلوماسيٍّ جديد.
ليست القضية الفلسطينية تفصيلاً في أجندة الصين، بل بوابة تدخل عبرها إلى قلب المنطقة العربية، لتعلن أنها لم تعد مجرد مصنع ضخم للبضائع الرخيصة، بل قوة عظمى تصوغ ملامح النظام الدولي القادم.
أولاً: ما قبل الحرب – من إعلان بكين إلى طموح الدور
قبل أن تنفجر الحرب الأخيرة في غزة، كانت الصين قد وضعت أول خيوط حضورها في الملف الفلسطيني. ففي يوليو 2024، احتضنت بكين حركتي فتح وحماس ومعهما 12 فصيلاً فلسطينياً، وأعلنت “إعلان بكين” للمصالحة الوطنية.
لم يكن هذا الإعلان مجرد وثيقة عابرة، بل رسالة سياسية: أن فلسطين لم تعد حكراً على عواصم المنطقة ولا ملعباً حصرياً لواشنطن. بكين دخلت اللعبة من باب الوحدة الفلسطينية، وهو الباب الأكثر تعقيداً والأشد خطراً، لكنها فعلت ذلك لأنها تدرك أن من يمسك بمفتاح المصالحة يملك شرعية الحديث باسم المستقبل.
إسرائيل، من جانبها، قرأت الخطوة بعين الريبة. أما الفلسطينيون، فوجدوا فيها متنفساً جديداً: بديلاً عن دائرة النفوذ التقليدية، ونافذة نحو لاعب عالمي يريد أن يسمع صوتهم لا أن يُملي عليهم شروطه.
ثانياً: أثناء الحرب – الصين على منصة مجلس الأمن
حين اندلعت الحرب في أكتوبر 2023، ارتفعت أصوات المدافع وسقطت غزة تحت سيلٍ من النار. في تلك اللحظة، لم تكتف بكين بالصمت الذي عُرفت به في أزمات سابقة، بل رفعت صوتها: وقف فوري لإطلاق النار، وصول غير مشروط للمساعدات الإنسانية، ورفض “العمليات العشوائية” التي تستهدف المدنيين.
على منصة مجلس الأمن، ظهر الفرق واضحاً: واشنطن تنحاز وتحمي إسرائيل بفيتو متكرر، فيما الصين تقدم نفسها كصوت القانون الدولي والعدالة. الإعلام العربي تلقف هذه المفارقة ورفع الصين إلى مرتبة “الصديق البعيد القريب”.
لكن بكين لم تكتفِ بالبيانات. فقد فتحت خطوط اتصال إقليمية، وطرحت نفسها شريكاً مستعداً لإعادة إعمار غزة بعد توقف الحرب. هنا بدا أن الصين لا تبحث فقط عن موقع أخلاقي، بل عن حضور استراتيجي طويل الأمد.
ثالثاً: بعد الحرب – الإعمار بوابة النفوذ
انتهت المعارك، لكن التحدي الأكبر بدأ: كيف تُبنى غزة من جديد؟ هنا، تتجه الأنظار نحو بكين. فالصين تمتلك ما لا يمتلكه غيرها: التمويل، الخبرة الهندسية، وسجلّاً طويلاً في تنفيذ مشاريع كبرى في أفريقيا وآسيا.
من خلال الإعمار، تريد الصين أن تثبّت أقدامها في قلب المشرق. فإعادة البناء ليست فقط عملية إنسانية، بل مشروع سياسي واقتصادي يحمل أبعاداً أعمق:
ربط فلسطين بشبكة “الحزام والطريق”.
ضمان حضور صيني دائم في ملف الشرق الأوسط.
تعزيز صورتها كقوة تدعم الشعوب لا الحكومات وحدها.
لكن يبقى التحدي فلسطينياً: هل يستطيع الداخل الفلسطيني تقديم قيادة موحدة لإدارة هذا الملف؟ الصين قادرة على تمويل المشاريع، لكنها لا تستطيع أن تحسم الخلافات الداخلية أو تواجه العرقلة الإسرائيلية وحدها.
رابعاً: من السياسة إلى الثقافة – البُعد الناعم في الحضور الصيني
ما يميز الحضور الصيني أنه لا يتوقف عند الدبلوماسية والاقتصاد. هناك بعد آخر آخذ في التنامي: التعليم والثقافة.
في السنوات الأخيرة، صارت الجامعات الصينية تستقبل آلاف الطلاب العرب، وبينهم سعوديون وكويتيون و فلسطينيون يدرسون الهندسة والطب والعلوم الحديثة في بيئة أكاديمية متقدمة. هذا البعد الثقافي يضيف إلى الحضور الصيني طابعاً ناعماً لا يقل تأثيراً عن السياسة والمال.
ولعل اللحظة تستدعي التفكير عربياً وفلسطينياً: أليس الوقت قد حان لفتح مراكز لتعليم اللغة الصينية في العواصم العربية؟ فالصين لم تعد بعيدة، بل صارت جزءاً من مستقبل منطقتنا، ومن يتقن لغتها يفتح لنفسه أبواباً في الاقتصاد والسياسة والثقافة.
خامساً: ما تكسبه فلسطين من التنين الآسيوي
الانفتاح على الصين يمنح الفلسطينيين مزايا لا يستهان بها:
1. تنويع الخيارات: لم يعد القرار الفلسطيني أسير الفيتو الأمريكي وحده.
2. أمل الإعمار: الدعم المالي والتقني الصيني قد يحول غزة من ركام إلى مدينة قابلة للحياة.
3. تعزيز الحضور الدولي: انخراط قوة عظمى مثل الصين يرفع القضية الفلسطينية إلى موقع مختلف على طاولة العالم.
4. رافعة تعليمية وثقافية: الطلاب العرب في الجامعات الصينية هم جسور بشرية تبني علاقة استراتيجية طويلة الأمد.
سادساً: التحديات التي تترقب بكين
لكن الصين، مهما بلغت قوتها، تواجه عقبات في هذه الساحة:
الانقسام الفلسطيني المعقد الذي يجعل أي وساطة محفوفة بالمخاطر.
التعطيل الإسرائيلي لأي مشروع إعمار أو تسوية سياسية.
الحساسية الأمريكية من أي حضور صيني في قلب الشرق الأوسط، بما قد يفتح الباب لمواجهة غير مباشرة.
ومع ذلك، يبقى أن الصين تتحرك بذكاء: تدخل بخطوات محسوبة، توازن بين إيران ودول الخليج، وتفتح الباب للفلسطينيين دون أن تدفع نفسها إلى صدام مباشر.
من غزة يبدأ الشرق الجديد
نقول من يراقب المشهد يكتشف أن غزة، بكل جراحها، صارت نقطة اختبار لنظام دولي يتشكل. واشنطن لم تعد اللاعب الوحيد، والغرب لم يعد المرجع المطلق. الصين دخلت، ومعها يدخل منطق جديد: منطق التعددية الدولية، ومنطق البحث عن حلول خارج القوالب القديمة.
الصين لا تقدم للفلسطينيين معجزات، لكنها تفتح لهم نافذة إلى عالم أوسع. والكرة تبقى في الملعب الفلسطيني: إن استطاعوا التوحد خلف مشروع وطني، فإن التنين الصيني قد يكون سنداً استراتيجياً في بناء المستقبل.
إنها لحظة فارقة: من ركام غزة قد ينهض ليس فقط إعمار جديد، بل شرق جديد، حيث يتقاطع الحلم الفلسطيني مع صعود القوة الصينية، في مشهد قد يغير موازين المنطقة والعالم.
م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل – عضو الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين أصدقاء وحلفاء الصين.