شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
د. عائده المصري،
عضو الاتحاد الدولي للصحفيين الدوليين/كتاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين، فرع الصين.
في العقد الأخير رسّخت الصين حضورها كقوة تكنولوجية واقتصادية، وتتحرّك اليوم لتثبيت مكانتها كمركزٍ عالمي لإنتاج المعرفة. غير أن هذا الطموح يحتاج ركناً حاكماً: منظومة تقييم أكاديمي تُوازن بين الصرامة العلمية وتشجيع الابتكار. فالمعايير التي تنظّم الحكم على البحث العلمي لا تحدد مسار الجامعات فحسب، بل تصوغ صورة الصين العلمية، وتعكس مدى جاذبيتها كشريك اقتصادي وسياسي في مبادرة الحزام والطريق.
التجربة الغربية تقدّم صورة مزدوجة. ففي أوروبا، ساهمت تقاليد الشفافية وإشراك وجهات نظر متعددة في رفع ثقة المجتمع العلمي بموثوقية التقييم. وفي الولايات المتحدة، مكّنت وفرة التمويل ومسارات المراجعة المؤسسية من احتضان أفكار عالية المخاطر وقابلة للتحويل الاقتصادي. لكن المنظومة الغربية تعاني بدورها من أعباءٍ معروفة: تضخم النشر من أجل النشر وتزايد البيروقراطية. الخلاصة: الريادة ممكنة، لكنها لا تدوم بلا مراجعة متواصلة لقواعد اللعبة.
على الطرف الآخر، تشهد جامعاتٌ في دول شريكة للحزام والطريق تحديثات منظومية هادئة: تحسين معايير الجودة، توسيع المقاربات متعددة التخصصات، وربط تقييم الأبحاث بأثرها التطبيقي والتنمية الوطنية. هذه التحسينات لم تأتِ على حساب الصرامة، بل رفعت الموثوقية وقلّصت الفجوة بين المختبر والسياسة العامة. بالنسبة للصين، التي تقود أكبر مشروع تكاملي عابر للأقاليم، السؤال ليس إن كانت قادرة على اللحاق، بل كيف تصوغ معياراً يتفوّق.
وهنا تبرز الفكرة المحورية: نموذج ثالث صيني للتقييم الأكاديمي. نموذج يحافظ على الصرامة المنهجية، ويوسّع عدسة التقييم لتشمل قيمة الفكرة، وتكامل المنهج، وقابلية التحويل إلى معرفة نافعة أو حلول سوقية. عالمياً، تميل الجامعات الرائدة إلى تصميمات أكثر تطوراً—دراسات متعددة المراحل، مناهج مختلطة، والربط بين مستويات التحليل الفردي والمؤسسي. وهذه ليست قضايا نظرية هامشية؛ بل نقاشات حاضرة بقوة في المجتمع الأكاديمي العالمي، من علم الاجتماع إلى الاقتصاد والإدارة. الانفتاح المدروس على هذه الاتجاهات لا يعني تخفيف المعايير، بل يزيد قدرتها على التمييز بين العمل المتكرر والعمل المُجدد.
الاقتصار على الشكلية وحدها—قوالب جامدة أو فحص مظهري للمنهج—ينتج أثراً عكسياً: يسهّل استنساخ القوالب، ويقلّل الحوافز أمام الجرأة الفكرية. أما التقييم المتوازن فيخلق بيئة تنافسية تجذب العقول، وتحوّل الجامعات إلى بواباتٍ للاستثمار والشراكات طويلة الأجل. بهذا المعنى، جودة التقييم الأكاديمي ليست تفصيلاً داخلياً؛ إنها أصلٌ استراتيجي يرفد القوة الناعمة للصين، ويقوّي موقفها التفاوضي مع الحكومات والقطاع الخاص على حدّ سواء.
ولعل المفارقة أن ما عبّرت عنه الصين مؤخرًا عبر أكبر عرض عسكري في تاريخها الحديث—كقوة صلبة تسعى لتثبيت موقعها كقوة عظمى—يمكن أن يقابله عرض آخر للقوة الناعمة: منظومة تقييم أكاديمي حديثة تُثبت أن الصين لا تبني جيوشًا فقط، بل تبني أيضًا معيارًا معرفيًا عالميًا. بهذا المعنى، تحديث التقييم الأكاديمي ليس تفصيلاً قطاعيًا، بل جزء من مشروع “حقبة صينية” متكاملة، تربط بين الصعود العسكري والاقتصادي والفكري في رؤية واحدة.
كيف يُترجم ذلك عملياً؟ عبر ثلاث إشارات واضحة:
• معايير موثوقية محدثة تربط الحكم العلمي بأثر البحث وقيمته المضافة، لا بحجمه أو زخمه الشكلي.
• تقييم متعدد الزوايا يدمج التخصصات ويُقدّر التكامل المنهجي دون إضعاف الصرامة.
• حلقة تغذية راجعة قابلة للتعلم داخل الأقسام والكليات، تجعل تحسين التقييم جزءاً من الريادة المؤسسية لا رد فعل ظرفياً.
الخلاصة مباشرة: نجاح الصين في الصناعة والتقنية يحتاج ظهيراً معرفياً بمعايير تقييم تقيس الجوهر قبل القالب. حين تُعرّف الصين صرامتها العلمية بوصفها صرامة منفتحة—تدقق بقوة وتكافئ الابتكار—ستصبح جامعاتها نقطة جذب أولى للباحثين، ومصدراً موثوقاً للأفكار القابلة للتطبيق، وذراعاً إضافية لقوة البلاد السياسية والاقتصادية ضمن الحزام والطريق. عندها لا تكون الجامعات تابعاً لنهضة وطنية؛ بل محركها الهادئ.