شبكة طريق الحرير الإخبارية/
بقلم: الكاتب احمد محمد، عضو مجلس الادارة الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
منذ أن بدأ الإنسان يواجه سؤال الوجود الأول: من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ ظل الموت هو الظل الأكبر الذي يرافقه في كل الحضارات. كان الموت بالنسبة له لحظة فاصلة بين المعلوم والمجهول، بين ما يراه بحواسه وما يتجاوزه إدراكه. وفي المجتمعات العربية، حيث تجذرت الأديان الإبراهيمية – الإسلام والمسيحية واليهودية ارتبطت صورة الموت بما بعده، بالبعث والحساب والجزاء. هناك تحولت الحياة إلى معبر قصير يقود إلى محكمة أبدية، أمام قاض كوني مطلق، حيث يُقاس الإنسان بما قدم وما أخر، ويُحدد مصيره بين الجنة والنار.
هذا التصور جعل الموت أكثر من نهاية بيولوجية، بل لحظة عدالة كبرى، ميزان أخلاقي لا يفلت منه أحد. وبسبب ذلك، نشأ وعي جمعي يوجه السلوك الإنساني تحت وطأة الخوف من العقاب، وفي الوقت نفسه برغبة عميقة في نيل الرحمة. صار الفرد يعيش حياته وهو يحمل نظرة مزدوجة عين على الدنيا بما فيها من مسؤوليات وأفعال، وعين شاخصة نحو الآخرة بما فيها من مصير أبدي. وكل خطوة أو قرار لم يعد مجرد فعل عابر، بل أثر ممتد إلى اليوم الآخر، إلى لحظة الوقوف أمام الحقيقة النهائية التي لا مهرب منها.
لكن الصورة في الشرق الأقصى ولا سيما في الصين بدت مختلفة تماماً. فالموت لم يكن هاجساً مرعباً لما بعده بقدر ما كانت الحياة نفسها موضع الخوف. هناك، لم ينشغل الناس كثيراً بالآخرة، بل باللحظة الحاضرة، حيث يكمن التهديد الأكبر في فقدان ماء الوجه أو السقوط في دائرة العار أمام المجتمع والأسرة والدولة. الإنسان في الثقافة الصينية كان يسعى أن يخرج من الدنيا مرفوع الرأس، بلا ندبة أخلاقية ولا شبهة اجتماعية، محافظاً على مكانته داخل نسيج الجماعة.
ولذلك، لم يتحول الدين في التجربة الصينية إلى سلطة للذنب واللعنة كما في التقاليد الإبراهيمية، بل كان أقرب إلى طقس للفرح واحتفال بالوجود وانسجام مع الطبيعة، وإيقاع من البهجة، وشعور بالانتماء، أكثر منه حساب على الخطايا. فالمحكمة هناك ليست في السماء وحدها، بل في أعين الناس، والضمير لا يُقاس فقط بالآخرة بل أيضاً بموقع الإنسان بين أقرانه.
أما الفلسفات الكبرى التي شكلت وعي الصينيين بالموت، فقد حملت رؤيتين متكاملتين وإن اختلفتا في العمق. الكونفوشيوسية تعاملت مع الموت بعقلانية، فرأت أن المشكلة الأهم هي مشكلة الحياة البشرية، ولذلك لم تكثر من الحديث عن الموت، معتبرة إياه تجلٍ لحكمة السماء وقدراً خارجاً عن سيطرة الإنسان. في المقابل، واجهت الطاوية الموت بجرأة، ورفضت الميل إلى تجنّبه أو كرهه. فالحياة والموت عندها يتعاقبان كما تتعاقب فصول السنة، كلاهما تعبير عن حركة الطاقة الكونية، وكلاهما خارج إرادة البشر.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فقد اتفقت الفلسفتان على أن الموت هو لحظة راحة وتحرر من عناء العالم، وأن له قيمة أخلاقية في بعض الأحيان. الكونفوشيوسية على سبيل المثال ربطت بين الموت والفضيلة، فرأت أن على الإنسان أن يكون مستعداً للتضحية بحياته من أجل قضية أخلاقية عليا، كسبيل لترك معنى خالد بعد الرحيل.
وهكذا نلمس الفرق الجوهري بين المجتمعات العربية و الصينية ففي الأديان الإبراهيمية يتحدد المصير أمام قاضٍ أبدي في الآخرة، بينما في الصين يُحاكم الإنسان بين الأحياء في حياته. هناك يقاس الخوف بالآخرة، وهنا يقاس بالعيش نفسه. وبين هذين التصورين يظل السؤال مفتوحاً أيهما أسمى؟ أن يعيش الإنسان تحت وطأة خوف من المجهول بعد الموت، أم أن يخشى أن يضيع قيمته بين الناس وهو على قيد الحياة؟ ربما تكمن الحكمة في أن يتحول الخوف، أيّاً كان مصدره، إلى دافع للعدل والرحمة والانسجام، وإلى طاقة تمنح الحياة معنى أعمق من مجرد العبور العابر.