شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
بقلم: دنغ تينغ،
باحثة في مركز الدراسات الشرق الأوسطية، جامعة صن يات-سين
في 30 مايو 2025، أُقيمت مراسم التوقيع على اتفاقية المحكمة الدولية للوساطة (International Organization for Mediation) في هونغ كونغ، حيث وقّعت 32 دولة من بينها الصين على الاتفاقية، لتصبح دولاً مؤسسة. وبعد ثلاث سنوات من التحضير، أُعلن رسميًا عن تأسيس المحكمة الدولية للوساطة. شارك في الحدث نحو 400 ممثل رفيع المستوى من 85 دولة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، بالإضافة إلى ما يقرب من 20 منظمة دولية. تضم المجموعة الأولى من الدول المشاركة في المحكمة بالأساس دولاً من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، من بينها: الصين، إندونيسيا، باكستان، لاوس، كمبوديا، صربيا، بيلاروسيا، السودان، الجزائر، جيبوتي وغيرها.
في ظل تعافي اقتصادي ضعيف، وتصاعد النزاعات والاضطرابات المحلية، وتفاقم التحديات العالمية، دخل العالم مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول، ما أدى إلى تزايد الحاجة الدولية إلى آليات الوساطة. ومع ذلك، لا توجد حتى الآن منظمة دولية حكومية متخصصة في الوساطة. كما أن الآليات الحالية لحل النزاعات بين الدول، مثل آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية (WTO) وآلية التحكيم في منازعات الاستثمار بين المستثمرين الأجانب والدول المضيفة، تعاني من مشكلات عديدة. فعلى سبيل المثال، توقفت آلية الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية بسبب تعطيل الولايات المتحدة، ولا يُتوقع أن تُستأنف في المدى القريب؛ كما أن غالبية مؤسسات التحكيم والمُحَكّمين في منازعات الاستثمار ينتمون إلى الدول المتقدمة، وهو ما يثير انتقادات حول عدالة الأحكام وتناسقها، فضلاً عن معايير اختيار المُحكّمين وأخلاقياتهم، مما يجعل آفاق الإصلاح غير واضحة. وتُظهر هذه التحديات أن آليات حل النزاعات الدولية الحالية لم تعد كافية للاستجابة بفعالية لحاجة العالم لحل النزاعات وضمان النظام الدولي، ما يستدعي إصلاحًا وابتكارًا.
وقد وُلدت فكرة إنشاء المحكمة الدولية للوساطة استجابةً لهذه الظروف العالمية، فجاءت في الوقت المناسب. وهي أول منظمة قانونية حكومية في العالم تُعنى حصريًا بحل النزاعات الدولية من خلال الوساطة، كما أنها أول منظمة دولية حكومية تتخذ من هونغ كونغ مقرًا لها، مما يُشكّل مكملًا مفيدًا للآليات والطرق الحالية لحل النزاعات، ويُوفر خيارًا جديدًا لتسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية. تسعى المحكمة الدولية للوساطة إلى تطبيق مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتختص باستخدام الوساطة لتسوية النزاعات بين الدول، وبين الدول والمستثمرين الأجانب، وكذلك النزاعات التجارية الدولية. فهي تسد فجوة في آليات الوساطة الدولية، وتُقدم منتجًا قانونيًا عامًا مهمًا يخدم تحسين الحوكمة العالمية، كما تُقدم الحكمة الصينية في حل الخلافات والنزاعات. ومن خلال اسمها الرسمي باللغة الإنجليزية، يتضح أن هذه المنظمة ليست محكمة بالمعنى التقليدي، إذ تعتمد على أساليب ناعمة وغير قسرية في حل النزاعات، وتركز على التفاوض المسبق والفعالية، مما يُعزز فرص التوافق والتنفيذ دون الحاجة إلى تدخل بالقوة الصلبة.
لماذا تم اختيار هونغ كونغ كمقر؟
في تقرير التحكيم الدولي الصادر هذا العام، تم تصنيف هونغ كونغ كثاني أكثر وجهة مفضلة للتحكيم في العالم. كما أشار أحدث تقرير “الاستعداد للتجارة” الصادر عن مجموعة البنك الدولي إلى أن هونغ كونغ تحتل مرتبة متقدمة عالميًا في مجال تسوية النزاعات. وتُعد هونغ كونغ مركزًا ماليًا وقانونيًا دوليًا يجمع بين مزايا النظامين القانونيين: القانون العام والقانون المدني، وتتمتع ببيئة قضائية دولية، وتزخر بالكفاءات المتخصصة في القانون الدولي وآليات الوساطة، مما يمنحها ظروفًا متميزة في مجال الوساطة الدولية. علاوة على ذلك، فإن عودة هونغ كونغ إلى الوطن الأم تُعد بحد ذاتها نموذجًا ناجحًا لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية. ويُظهر اختيار هونغ كونغ كمقر للمحكمة الدولية للوساطة اعتراف المجتمع الدولي ببيئتها القانونية القائمة على سيادة القانون.
كما أشار “مؤشر السفر الإسلامي العالمي لعام 2025” إلى أن هونغ كونغ دخلت لأول مرة ضمن المراتب الثلاث الأولى لأفضل الوجهات الصديقة للمسلمين بين الدول غير الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، بعد سنغافورة والمملكة المتحدة فقط. إن الطابع الدولي والانفتاح الذي تتميز به هونغ كونغ من شأنه أن يُوفر دعمًا قويًا للمحكمة الدولية للوساطة.
لماذا الوساطة؟
لقد أثبتت التجربة أن الوساطة وسيلة فعالة للوقاية من النزاعات بين الدول وإدارتها وحلّها. وتكمن ميزة الوساطة في أنها تقوم على مبدأ الطوعية، وتُبقي على سيطرة الأطراف على مسار معالجة النزاع، على عكس القضاء والتحكيم اللذين قد يؤديان إلى نتائج غير متوقعة بل ومفاقمة النزاع أحيانًا. كما أن الوساطة تجسّد مبادئ القانون الدولي مثل: المساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية، والتعاون من أجل تحقيق المكاسب المتبادلة. وإذا كان النزاع ينطوي على قضايا حساسة، فإن سرية إجراءات الوساطة تضمن تلبية احتياجات الدول الخاصة في معالجة النزاعات.
وقد لعبت الدول العربية دورًا نشطًا في مجال الوساطة الدولية. فعلى سبيل المثال، لطالما ظهرت قطر كـ”وسيط سلام” في محطات حاسمة من النزاعات الإقليمية. وبعد اندلاع الصراع بين فلسطين وإسرائيل في عام 2023، استثمرت قطر ميزة علاقاتها الجيدة مع حماس وإسرائيل والولايات المتحدة، لتؤدي دورًا نشطًا في الوساطة، مما ساعد على التوصل إلى اتفاق هدنة مؤقتة بين حماس وإسرائيل، وتعزيز عمليات تبادل الأسرى بين الطرفين. أما المملكة العربية السعودية، فقد دفعت الأطراف في القمة الخليجية الأمريكية في الرياض إلى التوصل إلى توافق بشأن القضية الفلسطينية، كما شاركت بعمق في جهود الوساطة في النزاع الروسي الأوكراني، مستفيدة من نفوذها الإقليمي ومواردها الدبلوماسية الغنية. وفي اليمن، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة بدور مهم في دفع الأطراف اليمنية إلى الحوار، وسعت إلى تهدئة الأوضاع المتوترة من خلال تقديم المساعدات الإنسانية ودعم إعادة الإعمار، مما ساهم في تهيئة الظروف المناسبة للمفاوضات السلمية.
إن ممارسة الدول العربية للوساطة تُجسّد بوضوح تأثيرها المحوري في الشؤون الإقليمية والدولية، كما تنسجم بعمق مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها المحكمة الدولية للوساطة. إن تأسيس المحكمة الدولية للوساطة يُوفر للدول العربية منصة تعاون أكثر موثوقية واتساعًا من حيث النطاق، تتيح لها تبادل الخبرات في مجال الوساطة مع عدد أكبر من الدول، والتعاون في التعامل مع النزاعات الدولية ذات الطابع العالمي، مما يُعزز من مكانتها في مجال الحوكمة العالمية، ويدفع بآليات الوساطة الدولية نحو مزيد من الكفاءة والعدالة. وبوصفها منتجًا قانونيًا عامًا جديدًا على المستوى العالمي، تُولي المحكمة الدولية للوساطة أهمية كبرى لتسوية الخلافات بالطرق السلمية، وحل النزاعات من خلال الحوار والتشاور. وعلى المدى البعيد، فإن رسالة المحكمة تتجاوز مجرد تسوية النزاعات القائمة حاليًا، إذ تُسهم في ترسيخ الأسس اللازمة لبناء نظام عالمي يسوده السلام الدائم والازدهار المشترك.