زارت جريدة الرؤية، ضمن وفد إعلامي عربي، شينجيانغ في جمهورية الصين الشعبية؛ تلبيةً لدعوة رسمية من فيلق شينجيانغ للإنتاج والتعمير؛ بهدف التعرُّف على أبرز إنجازات الفيلق واستكشاف مدينتي توموشوك وككدالا، اللتين تعدان من النماذج التنموية الرائدة في المنطقة.
الرحلة بدأت من مطار العاصمة بكين إلى مطار أورومتشي، عاصمة شينجيانغ، حيث استغرقت الرحلة الجوية حوالي أربع ساعات. ولدى وصول الوفد إلى مدينة أورومتشي، استقبلنا السيد لي يونغ هونغ، نائب قائد فيلق شينجيانغ للإنتاج والتعمير، إلى جانب عدد من أعضاء الفيلق؛ حيث أقيمت مأدبة عشاء فاخرة على شرف الزيارة.
ملامح عربية واضحة!
في أجواء ماطرة لطيفة، تجولتُ بين جنبات البازار الدولي الكبير بمدينة أورومتشي؛ حيث يلتقي عبق الماضي بسحر الحاضر. عند مدخل البازار، تستقبلك شخصية جحا الشهيرة مع حماره، والتي يطلقون عليها اسم “بابا أفندي”، لتضيف لمسة من التراث العربي الأصيل إلى المكان.
البازار يغلب عليه الطابع الإسلامي في تصميمه، يعكس روح الحضارة الإسلامية بوضوح؛ فمنارات المساجد تزين الأفق، وكأنها تروي حكايات قوافل طريق الحرير التي مرت من هنا في عصور خلت. تنوعت معروضات البازار بين الخبز الشينجاني الطازج والمحاصيل الزراعية المختلفة، بينما تزيَّنت المحلات التجارية برسومات الجمال ذات السنامين، ما يمنح زائره إحساسًا وكأنه أحد التُّجار الرحَّالة في ذلك الزمن البعيد.
انتصار الفيلق على التطرُّف
وفي صباح اليوم التالي، أتيحت لنا فرصة زيارة معرض “محاربة الجرائم الإرهابية والتطرف في شينجانغ”، الذي يعد نافذةً على حقبة عصيبة من تاريخ المنطقة، تمتد من عام 1990 حتى 2016. تلك الفترة اتسمت بموجة من العنف والتطرف التي هددت أمن واستقرار المجتمع. ويُبرز المعرض تفاصيل تلك الحقبة من خلال توثيق شامل للأحداث، حيث تعرض الأدوات والأسلحة التي استخدمتها الجماعات الإرهابية، مثل القنابل اليدوية وأسطوانات الغاز، إلى جانب مشاهد مؤلمة توثق معاناة الأهالي خلال تلك الفترة.
كما يسلط المعرض الضوء على الجهود التي بذلتها الحكومة الصينية وفيلق شينجيانغ للإنتاج والتعمير في مواجهة الإرهاب والتطرف. فقد تبنت الحكومة استراتيجية شاملة تجمع بين التصدي للأعراض الظاهرة للأزمة ومعالجة جذورها العميقة. شملت هذه الاستراتيجية إنشاء مراكز للتعليم والتدريب المهني، بهدف حماية الشباب من الوقوع في براثن التطرف وتوفير فرص تعليمية ومهنية تعزز من التنمية المستدامة. ومن خلال هذه الجهود، أكدت الحكومة على مبدأ أن “الإرهاب لا دين له”، مشددة على أهمية تعزيز قيم السلام والتعايش بين مختلف القوميات في شينجيانغ.
وداخل المعرض، عرضت شاشات وصور تسرد قصصًا مؤثرة عن معاناة الأهالي بسبب الإرهاب والتطرف. تلك المشاهد تذكر الزوار بالفترة التي عاش فيها سكان شينجيانغ من التوتر والخوف من العمليات الإرهابية؛ حيث تعرض الأبرياء للعنف والدمار. وقد أظهرت هذه المشاهد أهمية الجهود المبذولة لحماية المجتمع وضمان استقراره.
تناغم القوميات
تلى ذلك، زيارة إلى مسجد تونج شينج دونج، والاجتماع مع إمام المسجد تشين يوين وعضو اللجنة الإسلامية الصينية في المنطقة. وفي حديث ودي قال: “لقد تم بناء المسجد في عام 2016 على مساحة تبلغ 1080 مترًا مربعًا، ويتألف من ثلاثة طوابق تضم مكتبة مخصصة للدروس الإسلامية، إضافة إلى توفير كافة الخدمات التي يحتاجها المصلون”. وأضاف الإمام أن المسجد يخدم 1488 مسلمًا من سكان المنطقة، مشيرًا إلى أن الحكومة الصينية توفر للأئمة رواتب شهرية، إلى جانب خدمات التأمين الصحي والهاتف، كما تتحمل الحكومة تكاليف فواتير المياه.
وفي ظل ازدهار اقتصادي وتناغم اجتماعي تشهد اليوم منطقة شينجيانغ نموًا ملحوظًا في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يواصل المجتمع المحلي التزامه بالاستقرار والتناغم بين القوميات المختلفة. ويبرُز هذا الالتزام في صورة مجتمع قوي ومتماسك يحترم حقوق ومعتقدات جميع القوميات دون تمييز، مما يعزز أسس التعايش السلمي ويشكل نموذجًا للتنمية المستدامة.
ويعكس المشهد الطبيعي لجبل تيان شان، شمالًا وجنوبًا، صورة مشرقة من العيش والعمل في سلام وطمأنينة. فمن الناحية الاقتصادية، سجلت شينجيانغ في الربع الأول من عام 2025 إنجازًا بارزًا، حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي 472 مليارًا و909 ملايين يوان، محققًا زيادة قدرها 5.6% مقارنة بعام 2024. كما بلغت سرعة النمو الاقتصادي في شينجيانغ على المعدل العام للدولة، زيادة إضافية قدرها 2%.
200 منتج ألبان
أما زيارة أحد مصانع شركة “Tian Run” لمنتجات الألبان، فكانت بحق لا تُنسى؛ حيث استمتعتُ بتذوق مجموعة متنوعة من منتجات الحليب والألبان التي تأسر الحواس. وتأسس المصنع في عام 2012 ليصبح رمزًا للإبداع والجودة؛ حيث ينتج أكثر من 200 نوع من الحليب، والجبن، ومنتجات الألبان الأخرى.
وما يميز منتجات “Tian Run” هو استفادتها من ثراء منطقة شينجيانغ بمواردها الطبيعية الوفيرة، من المياه النقية إلى المروج الخضراء الشاسعة، مما يضفي جودة استثنائية على منتجاتها. ويُعد حليب الشركة فريدًا من نوعه، حيث يجمع بين تقنيات الإنتاج الحديثة وسحر الطبيعة في شينجيانغ المعروفة بتميزها في تربية الأبقار والماشية.
كان مسك ختام الزيارة في أروموتشي، جولة مميزة في حي “شين شان”، الذي تأسس عام 2004، ليجمع بين السكن الراقي والمجمعات التجارية الحديثة، إلى جانب منطقة اقتصادية نابضة بالحياة، فبحسب الإحصاءات في نهاية عام 2024، بلغ عدد سكان شينجيانغ أكثر من 26 مليون نسمة. وبذلك فإن الحي ليس مجرد مكان للإقامة، بل هو نموذج متكامل لجودة الحياة.
وفي رحلة لا تتجاوز ساعتين بالطائرة، انطلقت إلى مدينة توموشوك، التي تَعني بالإيغورية “الجزء البارز من وجه النسر”، وهو اسم يناسب موقعها الكامن في قلب الصحراء وأراضي الرمال الذهبية الساحرة. هذه المدينة التي تُعرف بلقب “موطن القطن”؛ حيث ساهم إنتاج القطن في شينجيانغ عام 2024 بنسبة 92.2% من الإنتاج الوطني، محققًا رقمًا قياسيًا تاريخيًا.
في صباح اليوم التالي، استكشفتُ 3 مواقع أثرية تعود لآلاف السنين، تنتمي إلى أسرة تانغ الصينية، لتقف شاهدًا على الامتداد التاريخي للصين القديمة. وفي مقدمة هذه المواقع، يتألق متحف يضم مقتنيات الأسرة الملكية، وكأنه بوابة إلى عوالم الماضي التليد.
وخلال الزيارة ومشاهدتي رمال الصحراء وتضاريس توموشوك أدركت بأنها ليست مجرد واحة عابرة في قلب الصحراء؛ بل هي جوهرة ثقافية تنبض بالتاريخ والحياة. إذ تحتضن بين أحيائها 13 مجموعة عرقية متنوعة، من بينهم الأويغور، والهان، والهوي، والمغول، لتصبح مرآة تعكس تنوعًا ثقافيًا فريدًا. ورغم تأسيسها في عام 2002، إلا أن شوارعها تروي حكايات تعود لقرون مضت؛ حيث كانت محطة أساسية على طريق الحرير القديم، ذلك الشريان التاريخي الذي ربط الصين بآسيا الوسطى. هنا تمتزج رمال الصحراء بعبق شبه الجزيرة العربية، وتهمس الرياح بأصداء من الربع الخالي، لتضعك في حالة من الدهشة بين اليقين والخيال، متسائلًا: هل أنا حقًا في الصين؟!
حماية الحدود
بينما كنت أدوّن ملاحظاتي وأبحث عن إجابات لتساؤلاتي، توقفت بنا الحافلة عند متحف تاريخ المرابطة لاستصلاح الأراضي وحراسة الحدود. وأسس هذا المعلم الثقافي عام 2016 ليكون شاهدًا نابضًا على إرث المنطقة وتراثها الزاخر.
وتحتضن قاعات المتحف مقتنيات نادرة من “أسرة هان”، إلى جانب خريطة مذهلة لطريق الحرير القديم، ذلك الشريان التجاري الذي ربط الحضارات عبر العصور. كما يضم المتحف أيضًا أسلحة وأدوات قديمة استخدمت في حماية أراضي المنطقة، وأخرى شخصية تحكي حياة إنسان شينجيانغ القديم. أما الركن الأكثر إثارة، فهو ذلك الذي جمع صورًا ومجسمات تروي قصص أبطال المسيرة الكبرى، وتنقل للزائر روح التضحيات والتاريخ المجيد.
إن استصلاح الأراضي وحراسة الحدود يمثلان إرثًا تاريخيًا عريقًا خلفته الصين عبر آلاف السنين؛ حيث لعبت دورًا محوريًا في تنمية المناطق الحدودية وتعزيز الدفاع عنها. وبدأت الحكومة الصينية في ممارسة إدارتها على نطاق واسع في منطقة شينجيانغ، الواقعة في غربي الصين، منذ عهد أسرة هان الغربية قبل أكثر من 2000 عام، مما أسس لنهج استراتيجي مستدام في استصلاح الأراضي وحماية الحدود.
وعلى مر العصور، برز فيلق شينجيانغ كحارس أمين لاستراتيجيات الدولة، مجسدًا رؤية متكاملة تجمع بين إدراك موقع الصين الجغرافي وأوضاع شينجيانغ القومية، مع تطوير الخبرات التاريخية لتلبية متطلبات الظروف المتغيرة.
ويعد فيلق شينجيانغ اليوم جزءًا لا يتجزأ من منطقة شينجيانغ الويغورية ذاتية الحكم، متحملًا مسؤوليات وطنية كبرى تشمل استصلاح الأراضي وحراسة الحدود. يعتمد هذا الفيلق نظامًا فريدًا يجمع بين وظائف الحزب والحكومة والجيش والمؤسسة، مما يمنحه صفة منظمة اجتماعية خاصة قادرة على إدارة الشؤون الإدارية والقضائية في المناطق التابعة لها وفقًا للقوانين واللوائح الوطنية.