شبكة طريق الحرير الإخبارية/
كتب وارف قميحة*:
بينما اجتمع قادة الدول الصناعية الكبرى في كندا تحت مظلة مجموعة السبع وفي أجواء طغت عليها الخلافات، شهدت مدينة أستانا الكازاخية لقاءً مختلفًا جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ وقادة دول آسيا الوسطى الخمس، خرج بتوقيع معاهدة تحمل طابعًا استراتيجيًا طويل الأمد.
في كاناناسكيس حيث كان من المفترض أن تبرز القمة الغربية بوصفها منصة للتماسك الدولي ظهرت الانقسامات منذ اليوم الأول. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفض التوقيع على بيان مشترك يدعو إلى خفض التصعيد بين إسرائيل وإيران مما فجر خلافًا فوريًا مع شركائه الأوروبيين. ورغم محاولات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا التوفيق بين المواقف فإن القمة بدت وكأنها منصة لتباين وجهات النظر لا لوحدتها.
وفيما كان الملف النووي الإيراني والأمن في الشرق الأوسط على رأس النقاشات امتد التوتر إلى الملفات الاقتصادية أيضًا. بعد لقاء مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني أقر ترامب بوجود “اختلاف في المفاهيم” مشيرًا إلى تمسكه بسياسات التعريفات مقابل ما وصفه بأنه “نموذج أكثر تعقيدًا” يقترحه كارني.
في المقابل قدّمت قمة أستانا مشهدًا مغايرًا تمامًا. الرئيس الصيني شي جين بينغ برفقة قادة كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، وأوزبكستان أعلن عن توقيع معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي الدائمين، مشددًا على أن روح هذه العلاقة تقوم على أربعة مبادئ أساسية: الاحترام المتبادل، الثقة المتبادلة، المنفعة المتبادلة، والمساعدة المتبادلة.
القمة لم تكن فقط لقاء سياسيًا بل محطة جديدة في إعادة رسم معالم التعاون الإقليمي في قلب أوراسيا. وقد أكد شي أن الهدف المشترك هو تحقيق التحديث الجماعي للدول المشاركة من خلال التنمية عالية الجودة في إشارة واضحة إلى التكامل ضمن إطار مبادرة الحزام والطريق.
الأهم أن هذا النهج الصيني يعكس تصاعد دور التعاون جنوب-جنوب كبديل واقعي للعلاقات التقليدية مع القوى الغربية. فالصين كما أظهرت خلال هذه القمة تسعى إلى بناء شراكات قائمة على الندية وتبادل المصالح لا على المساعدات المشروطة أو الإملاءات السياسية. وهي بذلك توفّر منصة لدول الجنوب لتجاوز المعادلات القديمة وبناء مستقبل أكثر استقلالية وتوازنًا.
ولا يمكن فصل هذا التحول عن تصاعد مكانة الجنوب العالمي في المعادلة الدولية. فبينما تنشغل القوى الغربية بخلافاتها الداخلية وتحدياتها البنيوية باتت دول الجنوب أكثر قدرة على صياغة مشاريعها التنموية الذاتية مدفوعة بشبكات جديدة من التعاون الإقليمي والدولي. الصين والهند ودول البريكس والعديد من بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا باتت ترى في التعاون جنوب-جنوب وسيلة عملية لإعادة التوازن إلى العلاقات الاقتصادية والسياسية العالمية خصوصًا في مجالات التكنولوجيا، البنية التحتية، الزراعة، والصحة.
قمة أستانا ليست حدثًا معزولًا بل امتداد لمسار من الشراكات المتعددة الأطراف تتجاوز الأطر التقليدية التي لطالما حكمت العلاقات الدولية. هذا النموذج الجديد يتحدى المركزية الغربية ويفتح الباب أمام عالم متعدد الأقطاب تُبنى فيه الشراكات على قواعد المصالح المشتركةواحترام السيادة والتكامل الحقيقي في ملفات التنمية والطاقة والمناخ.
إذا كانت قمة مجموعة السبع قد عكست مرة جديدة هشاشة التفاهمات داخل المعسكر الغربي وتضارب مصالحه فإن قمة أستانا قدّمت نموذجا مغايرا للتلاقي حيث يجري بناء التحالفات على أسس واضحة من المصالح المتوازنة والتوجه التنموي المشترك.
في مشهد اليوم لم يكن التناقض بين قمتين فقط بل بين رؤيتين لعالم يتغير. واحدة تتخبط في الخلافات والاصطفافات وأخرى تمضي في طريق هادئ نحو شراكات أكثر استقرارا وإنصافا. يبدو أن الجنوب بقيادة صاعدة من الشرق بات قادرا على صياغة سرديته الخاصة وربما مستقبله أيضاً.
*وارف قميحة
رئيس الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل
رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث