شبكة طريق الحرير الإخبارية/
د. عائده المصري،
عضو الاتحاد الدولي للصحفيين والاعلاميين اصدقاء وحلفاء الصين ، فرع الصين.
الشرق الأوسط تلك البقعة المحورية التي تلاقت فيها على مر العصور طرق التجارة وتداخلت فيها خيوط الصراعات يجد نفسه اليوم على أعتاب فصل جديد من التحولات ففي عالم يموج بتقلبات موازين القوى تبرز “رقصة التانغو الجمركية” كاستعارة بليغة لفهم التفاعلات المعقدة التي تشكل مستقبل صناعته هذه الرقصة التي تتصاعد أنغامها مع كل قرار جمركي وكل رد فعل تجاري يقودها قطبان رئيسيان التنين والفارس لكنها تتأثر أيضًا بحركات خفية لأطراف أخرى ، السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح على صناع القرار في المنطقة هو كيف ستعيد هذه الاستراتيجيات المتضاربة التي تتخذ من الجمارك سلاحًا في حرب اقتصادية صامتة تشكيل المشهد الصناعي في الشرق الأوسط ؟ للإجابة على هذا التساؤل لا بد لنا من استحضار خطوات الماضي وفهم إيقاع الحاضر لاستشراف التحركات القادمة على هذه الساحة الحيوية.
في قلب هذه الرقصة يقف قطبان رئيسيان التنين الذي يرمز إلى الصين والفارس الذي يمثل الولايات المتحدة تحركاتهما سواء كانت خطوات هجومية بفرض التعريفات أو خطوات دفاعية بالردود التجارية تحدد الإيقاع العام وتلقي بظلالها على جميع المشاركين أما دول الشرق الأوسط فهي ليست مجرد متفرجين فلكل منها دورها الخاص المستمد من طبيعة اقتصادها وعلاقاتها التجارية المتشابكة فهناك الدول النفطية الكبرى التي تراقب تأثير تقلبات الأسعار وهناك الاقتصادات الأكثر تنوعًا التي تسعى لاقتناص فرص جديدة وأخرى تربطها شراكات اقتصادية قوية بأحد طرفي النزاع.
لكن خلف هؤلاء اللاعبين الرئيسيين تتحرك قوى خفية تؤثر في مسار الرقصة الشركات متعددة الجنسيات بتكييفها لاستراتيجياتها الإنتاجية بحثًا عن ملاذات آمنة وأكثر ربحية يمكن أن تعيد رسم خرائط الاستثمار وتجعل من الشرق الأوسط وجهة بديلة محتملة وبالمثل فإن شركات التكنولوجيا والأتمتة بتطويرها حلولًا تغير معادلة تكاليف الإنتاج تلعب دورًا صامتًا لكنه مؤثر في قرارات إعادة التوطين ولا يمكن إغفال دور المؤسسات المالية والاستثمارية العالمية التي تعيد تقييم المخاطر وتوجه التدفقات الرأسمالية في ظل هذه التوترات حتى الرأي العام وتفضيلات المستهلكين وإن بدت هامشية يمكن أن تؤثر على قرارات الشركات بشأن مكان إنتاج سلعها.
تشهد خطوات الرقصة الحالية استخدامًا متزايدًا للجمارك كسلاح في حرب اقتصادية تتسم بالصمت الحذر والضربات الموجعة قرارات إدارة ترامب بفرض رسوم جمركية على سلع صينية كانت بمثابة تغيير مفاجئ في الإيقاع وقد ردت الصين بفرض رسوم انتقامية وتوجيه جهودها نحو تطوير أسواق بديلة وتعزيز مبادرة الحزام والطريق كما لجأت إلى منظمة التجارة العالمية وتسعى لدعم صناعاتها المتضررة هذه الخطوات المتبادلة خلقت اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية تلك الشبكات المعقدة التي يعتمد عليها تدفق السلع والخدمات بالنسبة للشرق الأوسط تجلى هذا التأثير في تقلبات أسعار الطاقة والمواد الخام وتأخر بعض المشروعات الاستثمارية وظهور حالة من عدم اليقين بشأن المستقبل.
إن استخدام الجمارك كسلاح في المعارك الاقتصادية ليس ابتكارًا حديثًا فبالعودة إلى صفحات التاريخ نجد أمثلة عديدة لدول استخدمت التعريفات الجمركية لتعزيز صناعاتها المحلية أو للضغط على خصومها سياسيًا واقتصاديًا من سياسات المركنتيلية التي سادت في القرون الوسطى إلى قوانين الحماية التجارية في فترات لاحقة كانت الجمارك دائمًا أداة قوية في يد الحكومات والسؤال الذي يطرح نفسه هل يحمل استخدام ترامب للجمارك في طياته نفس الأهداف والتداعيات التي شهدناها في الماضي وهل يمكن لدول الشرق الأوسط أن تستفيد من دروس التاريخ في التعامل مع هذه الموجة الحمائية الجديدة .
تتعدد السيناريوهات المحتملة لمستقبل “رقصة التانغو الجمركية” وتأثيرها على الصناعة في الشرق الأوسط ففي ظل استمرار التوترات قد تسعى الصين لتنويع شركائها التجاريين وتسريع اكتفائها الذاتي التكنولوجي وتعزيز دور عملتها عالميًا وقد يصبح الشرق الأوسط ساحة لتنافس نفوذ اقتصادي وتكنولوجي متزايد خاصة مع تطور مبادرة الحزام والطريق كبديل محتمل لطرق التجارة التقليدية أما في حال التوصل إلى تهدئة فقد يشهد الشرق الأوسط عودة لتدفقات الاستثمار لكن مع حذر أكبر وتنويع للمصادر لتجنب المخاطر المستقبلية وفي كلتا الحالتين يصبح التخطيط الصناعي الاستراتيجي والتعاون الإقليمي ضروريًا لدول المنطقة لتعزيز قدرتها التنافسية والاستفادة من الفرص الناشئة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة واللوجستيات المتقدمة.
في نهاية المطاف فإن “رقصة التانغو الجمركية” ليست مجرد مناوشات اقتصادية عابرة بل هي تحول استراتيجي يحمل في طياته فرصًا وتحديات كبيرة لمستقبل الصناعة في الشرق الأوسط إن فهم خطوات هذه الرقصة والتعرف على اللاعبين الرئيسيين والخفيين واستشراف التحركات القادمة هو أمر بالغ الأهمية لصناع القرار في المنطقة إن تبني رؤى استباقية وتطوير استراتيجيات مرنة وتعزيز التعاون الإقليمي سيكون مفتاح النجاح في عالم يسوده عدم اليقين فالشرق الأوسط ليس مجرد متفرج في هذه الرقصة بل هو شريك محتمل ومستفيد محتمل إذا ما أحسن قراءة النوتات الموسيقية واتخذ الخطوات الصحيحة .