شبكة طريق الحرير الاخبارية
إعداد: عادل علي
إعلامي وباحث متخصص في الشؤون الصينية
بصفته القائد الأعلى للصين حزبا ودولة، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ، العديد من الأفكار والنظريات والاستنتاجات المهمة حول حوكمة الدولة وإدارة شؤونها، أجاب من خلالها بالتفصيل عن المسائل النظرية والواقعية الهامة حول تطور الحزب والدولة في الظروف التاريخية الجديدة. وعرض بصورة مركزة مفهوم حوكمة الدولة وإستراتيجية تنفيذ الحكم للجماعة القيادية الجديدة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني[1].
ويُعد الإعلام بمختلف وسائله، من بين المسائل المهمة التي تطرقت إليها أفكار الرئيس شي جين بينغ حول الحوكمة. إذ يؤكد الرئيس شي على ضرورة سرد قصص الصين ونقل صوتها بشكل جيد وعرض صورة حقيقية وثلاثية الأبعاد وشاملة للصين أمام العالم، وذلك بهدف تعزيز بناء قدرتها على الإعلام الدولي. كما يؤكد أيضا على ضرورة الفهم المعمق لأهمية وضرورة تعزيز وتحسين عمل الإعلام الدولي بما يتناسب مع القوة الوطنية الشاملة للصين ومكانتها الدولية، وتهيئة بيئة رأي عام خارجية مؤاتية للإصلاح والتنمية والاستقرار في الصين، فضلا عن تقديم مساهمة إيجابية في تعزيز بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية[2].
ويشير مفهوم حوكمة وسائل الإعلام إلى السياسات الإعلامية، والقواعد القانونية المنظمة، ونظم الملكية وإنتاج المحتوى ومناهج التطوير والتحديث، وكذلك المشاركة المجتمعية وأساليب إتخاذ القرار بما يتماشى مع الصالح العام، وتحليل مدى قوة وتأثير المؤسسات الإعلامية محليا وإقليميا وعالميا[3].
وقد شهد الإعلام الدولي في الأعوام القليلة الماضية مجموعة من التطورات السريعة والمتلاحقة، ولاسيما ذات الصلة بوسائط التواصل الاجتماعي والبث التفاعلي والهواتف الذكية والذكاء الاصطناعي.. إلخ. وهي التطورات التي ترتب عليها إسباغ صفة العولمة على الأنشطة الإعلامية. وهو الأمر الذي سيترتب عليه تحديد المسار المستقبلي لهذه الأنشطة من جهة، فضلا عن التأثير في أنظمة الإعلام الوطنية في دول العالم من جهة أخرى[4].
وفي ظل التطورات التي طرأت على الإعلام الجديد، تتنافس القوى العظمى على بناء الأخبار، بما يخدم مصالحها ويعزز صورتها وسردياتها. وفي إطار ما أطلق عليه البعض “الحرب الإعلامية الباردة”، تسعى الصين باعتبارها قوة دولية كبرى، إلى طرح رؤيتها الإعلامية على الساحة الدولية، من خلال الاستفادة من تطور تكنولوجيا الإعلام لبناء شبكاتها الخاصة من القنوات الإخبارية ومنصات التواصل، بهدف تحقيق طموحاتها السياسية والاقتصادية[5].
في ضوء ما سبق، تُثار التساؤلات بشأن حوكمة الإعلام في الصين في ظل أفكار الرئيس شي جين بينغ، ودوافع اهتمام الصين بدور الإعلام في إطار أهداف سياستها الخارجية، وآليات وأدوات الاستراتيجية الإعلامية لبكين، وماهية نتائج توظيف الصين للإعلام في سياستها الخارجية، وما قد تواجهه الصين من تحديات بهذا الشأن؟.
أولا: رؤية الرئيس شي جين بينغ:
طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ، في المجلد الرابع من كتاب (شي جين بينغ حول الحكم والإدارة)، والذي صدرت طبعته الأولى بعدة لغات، ومنها اللغة العربية، في عام 2023، العديد من الأفكار والأطروحات حول الإعلام والحوكمة. ويمكن رصد واستعراض أبرز تلك الأفكار في النقاط الرئيسية التالية:
1- الأهداف الرئيسية للإعلام: يرى الرئيس شي جين بينغ إن هناك العديد من الأهداف والأدوار المهمة التي يجب أن يقوم بها الإعلام الصيني، وتتمثل في الآتي:
أ – ضرورة تعزيز بناء قدرة الصين في مجال الإعلام الدولي. وتتمثل الأساليب والمتطلبات الرئيسية اللازمة لتحقيق ذلك من وجهة نظره في ضرورة سرد قصص الصين ونقل صوتها بشكل جيد، وعرض صورة حقيقية وثلاثية الأبعاد وشاملة للصين أمام العالم الخارجي[6].
ب – تشكيل حق الحديث على الصعيد الدولي، وإيصال صوت الصين على المستوى الدولي، بما يتناسب مع قوتها الوطنية الشاملة ومكانتها الدولية. وهو ما يشير إلى ضرورة أن تقوم الصين بلعب دور كبير في تشكيل وصياغة النظام الإعلامي الدولي بما يتواءم مع المكانة التي وصلت إليها على المستوى الدولي، وعدم ترك الساحة الإعلامية الدولية لكي تنفرد بها قوى دولية أخرى تعمل على تشكيلها وصياغتها بما يتناسب مع أهدافها ومصالحها، والتي تتعارض مع أهداف ومصالح الصين[7].
ج – محاولة جذب التأييد والدعم والمساندة من جانب مختلف شعوب العالم لما تتبناه الصين من سياسات تنموية واقتصادية واجتماعية، وذلك من خلال تأييد النخب والرأي العام في مختلف دول العالم للسياسات والرؤى والأفكار الصينية، بما يصب إيجابا في تحقيق هذ السياسات من جهة، وإبراز جاذبيتها لدول العالم الأخرى من جهة ثانية. ما قد يدفعها إلى محاولة تطبيقها واستخلاص ما يناسبها من رؤى وأفكار تتضمنها هذه السياسات[8].
د – ضرورة تعزيز القوة الناعمة الثقافية للصين، حيث يرغب المجتمع الدولي في معرفة طريق تنمية الصين وأسرار نجاحها، وهو ما يتجسد في مطالبته للعاملين في مجال الأدب والفن بسرد قصص الصين بشكل جيد، وعرض صورة الصين الجديرة بالثقة والمودة والاحترام أمام العالم[9].
هـ – بناء دولة قوية في المجال السيبراني، حيث يرى الرئيس شي جين بينغ أن حضارة الانترنت تعتبر ليس فقط جزءا مهما من الحضارة الاجتماعية في ظل الوضع الجديد، وإنما أيضا مجالا حيويا لبناء دولة قوية في المجال السيبراني[10]. ويريد الرئيس شي جين بينغ تحويل الصين إلى قوة عظمى في مجال الإنترنت. ومن خلال اللوائح المحلية والابتكار التكنولوجي والسياسة الخارجية، تعمل الصين على بناء نظام سيبراني قوي يجعلها تمتلك صوتا أكبر في إدارة الإنترنت على المستوى العالمي[11].
2 – كيفية مواجهة التحديات الإعلامية التي تواجهها الصين:
يرى الرئيس شي جين بينغ أن الصين تواجه العديد من التحديات والمهام الجديدة على المستوى الإعلامي، وتتطلب مواجهة هذه التحديات والأوضاع الجديدة من وجهة نظر الرئيس شي، ضرورة العمل على تحقيق الآتي:
(1) تعزيز التصميم على المستوى الأعلى وتخطيط البحث، وبناء منظومة إعلام استراتيجي ذات خصائص صينية واضحة، والتركيز على زيادة تأثير الإعلام الدولي وجاذبية الثقافة الصينية وألفة صورة الصين والقوة المقنعة للخطاب الصيني والقوة التوجيهية للرأي العام الدولي.
(2) الإسراع في بناء منظومة الخطاب والسرد الصيني، واستخدام النظرية الصينية لتفسير الممارسة الصينية، واستخدام الممارسة الصينية للارتقاء بالنظرية الصينية، وخلق مفاهيم ومقولات وتعبيرات جديدة مفهومة لدى كل من الصين والدول الأجنبية، لعرض قصص الصين والقوة الفكرية والروحية وراءها بشكل شامل وواضح. ومن أمثلة تلك المفاهيم: التحديث الصيني النمط، مجتمع المصير المشترك للبشرية، الدبلوماسية ذات الخصائص الصينية… إلخ.
(3) مساعدة الأجانب على إدراك أن الحزب الشيوعي الصيني يكافح من أجل سعادة الشعب الصيني، وفهم أسباب نجاح الحزب الشيوعي الصيني والماركسية والاشتراكية ذات الخصائص الصينية في الصين.
(4) التعمق في البحث من زوايا متعددة مثل السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والحضارة الإيكولوجية، وبالتمحور حول روح الصين وقيمها وقوتها، لتقديم دعم أكاديمي ونظري للقيام بعمل الإعلام الدولي.
(5) دفع الثقافة الصينية للتوجه إلى الخارج بشكل أفضل، وتسليط الضوء أمام العالم على المزيد من مكونات الثقافة الممتازة التي تتحلى بالخصائص الصينية وتعكس روح الصين وتحتوي على الحكمة الصينية.
(6) نشر مبادرات الصين وحكمتها وحلولها على نطاق واسع، لاسيما وأن الصين تقترب من مركز المسرح العالمي بشكل متزايد، ولديها القدرة والمسؤولية للعب دور أكبر في الشؤون العالمية، ومشاركة البلدان الأخرى في الإسهام بشكل أكبر في حل المشاكل التي تواجه البشرية.
(7) رفع راية مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وتقديم تفسيرات تعبر عن وجهات نظر الصين إزاء التنمية والحضارة والأمن وحقوق الإنسان والبيئة الإيكولوجية والنظام الدولي والحوكمة العالمية.
(8) الدعوة إلى تعددية الأطراف ومعارضة الأحادية والهيمنة، وتوجيه المجتمع الدولي للعمل على تشكيل نظام دولي جديد أكثر عدلا وعقلانية، وبناء نوع جديد من العلاقات الدولية.
(9) تعميق التبادل الإنساني وتفاهم الشعوب بين الصين والبلدان الأخرى عبر قنوات عديدة.
(10) توظيف دور الخبراء الرفيعي المستوى بشكل أفضل، والتعبير عن آراء الصين عبر المنصات والقنوات مثل المؤتمرات والمنتديات الدولية المهمة ووسائل الإعلام الأجنبية الرئيسية.
(11) تحسين كفاءة الإعلام الدولي بشكل شامل، وتقوية صفوف المواهب المتخصصة التي تلبي احتياجات الإعلام الدولي في العصر الجديد. فضلا عن ضرورة تعزيز الدراسة النظرية في الإعلام الدولي، واستيعاب قوانينه، وبناء منظومة الخطاب الموجه الى الخارج، وتحسين فن الإعلام.
(12) اعتماد أساليب إعلام دقيقة تعتاد عليها الجماهير المستهدفة من مختلف المناطق والدول والفئات، وتشجيع سرد قصص الصين ونقل صوتها بشكل معولم ومستهدف إلى مختلف المناطق والجماهير، من أجل تعزيز تقارب الإعلام الدولي وفعاليته.
(13) تكوين الصداقات على نطاق واسع، والاتحاد مع الأكثرية وكسب دعم الأغلبية، وبذل جهود دؤوبة في توسيع دائرة الرأي العام الدولي المتفاهمة مع الصين والصديقة لها. فضلا عن الاهتمام بتكتيكات وأساليب نضال الرأي العام، وتحسين قدرة إطلاع العالم على آراء الصين حول القضايا الكبرى[12].
ثانيا: دوافع اهتمام الصين بدور الإعلام في إطار أهداف سياستها الخارجية:
يلعب الإعلام دوراً متزايد الأهمية في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية في النظام الدولي الراهن. إذ تتمحور هذه الأهداف حول تحقيق المصلحة الوطنية للفواعل الدولية المختلفة، عبر التأثير في الرأي العام في الدول الأخرى، وكذلك في الرأي العام العالمي[13].
ولا تُعد الصين استثناءً من القاعدة السابقة، إذ تعمل في إطار مشروعها للإنطلاق إلى العالمية، على الانتقال من مرحلة الانعزال والسلبية التي ميزت سياستها الخارجية في عهد دينغ شياو بينغ[14]، إلى مرحلة تتسم فيها هذه السياسة بالنشاط والاستباقية في عهد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، وهو ما يتضح في دعوته إلى تعزيز القوة الناعمة للصين، وطرح رواية صينية جيدة، وإيصال رسائل بكين إلى العالم بشكل أفضل[15]. وهو الهدف العام الذي تسعى وسائل الإعلام الرسمية الصينية، وكذلك الدبلوماسيون الصينيون في الخارج، إلى تحقيقه لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية لبكين. ويتفرع عن هذا الهدف الرئيسي مجموعة من الدوافع الفرعية، والتي يمكن رصدها في الآتي:
1- الدفاع عن القضايا الجوهرية للصين: ترتكز السياسة الإعلامية للحزب الشيوعي الصيني على ضرورة توظيف وسائل الإعلام في السرد الجيد لقصة الصين، وزيادة قوة الخطاب الصيني على المستوى الدولي. وهو ما يعني توظيف الإعلام الخارجي للصين في مواجهة الروايات السلبية وغير العادلة التي تنشرها وسائل الإعلام الغربية عن الصين. وبناء على ذلك، تدافع وسائل الإعلام الصينية وممثلو الدبلوماسية الصينية في الخارج عن القضايا التي تمثل أولوية قصوى بالنسبة للسياستين الداخلية والخارجية لبكين، والتي غالباً ما تُعد سبباً في توجيه الانتقادات إليها. ومن أمثلة هذه القضايا؛ مسألة تايوان، وأوضاع المسلمين في إقليم شينجيانغ، وقضية التبت، والاستقرار السياسي والاجتماعي، وحقوق الإنسان، ومكافحة الفساد[16]، بالإضافة إلى قضايا بحر الصين الجنوبي، والأوضاع في هونغ كونغ.
2- مواجهة الهيمنة الإعلامية الغربية: في سياق صراعها السياسي والأيديولوجي مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، تعمل الصين على مكافحة ما تعتبره “إمبريالية” الإعلام الغربي؛ نتيجة سيطرة الغرب لعقود طويلة على المشهد الإعلامي والمعلوماتي الدولي[17]، وذلك من خلال طرح وسائل الإعلام الرسمية الصينية رؤية بديلة للسردية الغربية، عبر الترويج لنسخة ورواية صينية خاصة للقضايا والأحداث التي تجري في الصين وآسيا والعالم. إذ تُقدم تقارير وتغطية إخبارية أكثر عن البلدان النامية مقارنة بوسائل الإعلام الغربية، كما أنها لا تمتلك أجندة خفية أو تحاول الترويج لأي قيم سياسية أو اجتماعية معينة لدول العالم، علاوة على تبنيها موقفاً محايداً تجاه القضايا العالمية[18].
3- إعادة رسم خريطة المشهد الإعلامي والمعلوماتي العالمي: تحاول الصين تشكيل الخطاب الإعلامي والمعلوماتي على المستوى الدولي، خاصةً في الدول المرتبطة بشكل مباشر بمبادرة الحزام والطريق الصينية[19]، إذ تعمل بكين على توثيق التعاون الإعلامي مع الدول النامية ودول الأسواق الناشئة، أو ما يُطلق عليه الجنوب العالمي، وخاصةً في الإطار متعدد الأطراف، بما يترتب عليه تنفيذ أهدافها والترويج لوجهة نظرها الرسمية.
وفي هذا السياق، أطلقت وكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا”، وهي وكالة الأنباء الرسمية الرئيسية في الصين، بالتعاون مع وسائل الإعلام الرئيسية في كل من البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا، “المنتدى الإعلامي لبريكس”؛ وذلك بهدف مواجهة محاولة بعض الدول احتكار الخطاب الإعلامي الدولي[20]. كما اقترحت الصين تأسيس آلية للحوار والتعاون رفيع المستوى بين وكالات الأنباء الدولية الأربع الكبرى، وهي “شينخوا” و”رويترز” و”أسوشيتد برس” و”فرانس برس”[21].
وترتكز الإستراتيجية الإعلامية لوكالة “شينخوا” على بناء قدرة الصين الخاصة على نشر رسالتها بشكل فعال على الصعيد الدولي، واستخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية لنشر الدعاية الصينية[22].
4- تعزيز التعاون مع الدول ذات التفكير المشابه: يعمل الحزب الشيوعي الصيني على تفعيل التعاون مع الدول ذات التفكير المماثل، بما يؤدي إلى تعزيز “مصالحه الوطنية الأساسية”، والتي تتمثل في ضمان استمرار الحزب في السلطة، والحفاظ على سيادة الصين وسلامة أراضيها والدفاع عنها، وتهيئة بيئة دولية تتسم بالاستقرار بهدف تعزيز القوة الوطنية الشاملة للدولة الصينية. فعلى سبيل المثال، تهدف وسائل الإعلام الرسمية الصينية التي تركز على أفريقيا إلى تحسين صورة بكين ونظامها السياسي في القارة السمراء، وتعزيز التضامن الصيني الأفريقي، وهو عكس ما تفعله بالنسبة للولايات المتحدة[23].
5- الترويج لنموذج التنمية والتحديث الصيني: تُعد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الأمر الذي يجعل ما يصدر عنها من سياسات وإجراءات تنموية واقتصادية محل اهتمام دول العالم كافة، وهو ما تعمل وسائل الإعلام الرسمية الصينية على ترويجه على المستوى الخارجي. وفي هذا السياق، أصدرت وكالة أنباء “شينخوا”، خلال القمة العالمية الخامسة للإعلام، تقريراً بحثياً بعنوان: “الاقتصاد الإنساني في العصر الجديد”؛ بهدف المساعدة على فهم التحديث الصيني بشكل أفضل[24].
6- توسيع جاذبية الثقافة الصينية: أعلنت إدارة الدعاية الصينية، في عام 2021، أنها ستعمل على توسيع جاذبية “المنتجات الثقافية” الصينية للجماهير الأجنبية، باستخدام منصات إعلامية جديدة في الخارج، مثل الأفلام والحلقات التلفزيونية وألعاب الفيديو؛ بهدف تنفيذ الاستثمار الثقافي والتعاون في الخارج، وبناء شبكات التسويق الدولية، وتوسيع نطاق الأصول الثقافية عالية الجودة في الخارج[25].
7- تفنيد التصورات الخاطئة لواشنطن تجاه بكين: في إطار سيطرة التنافس والصراع على العلاقات الصينية الأمريكية، تقوم وسائل الإعلام الرسمية الصينية بتفنيد التصورات الخاطئة من جانب الولايات المتحدة تجاه الصين، ولاسيما سعي الأولى إلى الترويج لخطاب “التهديد الصيني”، والتدخل في شؤون بكين الداخلية، وتشويه سياسة الصين الداخلية والخارجية، في محاولة لاحتواء الأخيرة[26]. فعلى سبيل المثال، وفيما يتصل بموقف الإعلام الصيني إزاء الصراع التجاري لبكين مع واشنطن، والذي بدأ في مارس 2018، نجد أن وسائل الإعلام الصينية ركزت على إظهار أن بكين الطرف الأقوى في الصراع، وأن الصراع التجاري يضر بالاقتصاد الأمريكي في المقام الأول[27].
ثالثا: آليات وأدوات الاستراتيجية الإعلامية الصينية:
في إطار سعي الصين لتوظيف إعلامها الرسمي ودبلوماسييها في الخارج، بما يصب في سياق تنفيذ أهداف سياستها الخارجية، فإنها تتبنى استراتيجية إعلامية ودعائية خارجية، ترتكز على مجموعة متنوعة من الآليات والوسائل، ويمكن رصد أبرزها في النقاط التالية:
1- مشاركة المحتوى مع وسائل إعلام دولية: تعقد وسائل الإعلام الحكومية الصينية اتفاقيات تعاون مع وسائل الإعلام الرئيسية في الدول الأخرى، تتيح لها نشر المحتوى الإخباري والإعلامي الذي تنتجه الصين في هذه الدول، وهو ما يمنحها إمكانية الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور المُستهدف[28]. وتنتج وسائل الإعلام الرسمية الصينية محتوى بـ12 لغة مختلفة، كما بلغ عدد مكاتب وكالة “شينخوا” في الخارج 181 مكتباً في 142 دولة ومنطقة بنهاية عام 2021[29]. وانضمت 217 وسيلة إعلامية من 101 دولة في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وأوقيانوسيا إلى شبكة الحزام والطريق للتعاون الإخباري والإعلامي[30]. كما يتم بث شبكة تلفزيون الصين العالمية في 140 دولة، ويتم أيضاً بث راديو الصين الدولي بـ65 لغة[31].
وعلى هامش القمة العالمية الخامسة للإعلام، وقّعت وكالة أنباء “شينخوا” اتفاقيات تعاون إعلامي مع وسائل إعلام ومؤسسات إعلامية أجنبية من كل من الأرجنتين والفلبين وروسيا وبوروندي وبربادوس؛ بهدف تفعيل التعاون في مجالات التبادل الإخباري وتبادل الأفراد والزيارات، علاوة على التطوير المتكامل لوسائل الإعلام[32].
2- الاستثمارات المالية في وسائل الإعلام المحلية والدولية: على الرغم من عدم توافر أرقام رسمية دقيقة بشأن حجم الإنفاق الصيني على وسائل الإعلام الرسمية المحلية وكذلك الأجنبية، فإن بعض الدراسات والتقارير الإعلامية الدولية تضمنت بعض الإحصائيات والأرقام التقريبية حول حجم الإنفاق المالي الصيني على وسائل الإعلام لخدمة أهداف سياستها الخارجية. فعلى سبيل المثال، أشارت مصادر إلى أن بكين أنفقت حوالي 6.6 مليار دولار منذ عام 2009، لتعزيز حضورها الإعلامي العالمي، كما استثمرت 2.8 مليار دولار في وسائل الإعلام بين عامي 2008 و2018[33]. وأشارت منظمة “فريدوم هاوس” عام 2022 إلى أن بكين تخصص مليارات الدولارات سنوياً لجهودها الدعائية في الخارج[34].
وخصصت الحكومة الصينية، في مارس 2023، مبلغ 54.84 مليار يوان (حوالي 8 مليارات دولار) كميزانية للإنفاق الدبلوماسي للعام الجاري، بزيادة قدرها 12.2%، ويتضمن حزمة متنوعة من المجالات، من ضمنها الدعاية الخارجية[35].
3- تنظيم اللقاءات والمنتديات الإعلامية الكبرى: تُعد الصين إحدى القوى الإعلامية الكبرى في الوقت الراهن، وفي إطار توجهاتها الإعلامية الرسمية على المستوى الخارجي، وبهدف خدمة أهداف سياستها الخارجية؛ تقوم مؤسساتها الإعلامية باستضافة وتنظيم العديد من اللقاءات والمنتديات الإعلامية الكبرى متعددة الأطراف، ومنها على سبيل المثال القمة العالمية للإعلام، والتي استضافتها وكالة “شينخوا” ثلاث مرات في أعوام 2009 (النسخة الأولى)، و2021 (النسخة الرابعة)، و2023؛ وذلك بهدف تعزيز التبادل والتعاون الإعلامي مع الصحفيين والإعلاميين من الدول الأخرى. فقد استضافت وكالة أنباء “شينخوا” الرسمية الصينية، خلال الفترة من 2 إلى 8 ديسمبر 2023، بمدينتي قوانغتشو وكونمينغ الصينيتين، النسخة الخامسة للقمة العالمية للإعلام، بمشاركة ممثلين عن وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والمنظمات الدولية من أكثر من 100 دولة ومنطقة[36]. وقد ناقشت القمة التي عُقدت تحت شعار “تعزيز الثقة العالمية، تعزيز تنمية وسائل الإعلام”، الفرص والتحديات التي تواجهها صناعة الإعلام العالمية في العصر الرقمي، ودور ومسؤولية الإعلام في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن كيفية رواية قصص التنمية البشرية وتعزيز التنمية المشتركة للعالم بشكل أفضل[37]. وتعتبر القمة العالمية للإعلام منصة عالمية مهمة للتبادلات والتعاون رفيع المستوى في مجال الإعلام[38].
كما عُقدت قمة ووتشن للمؤتمر العالمي للإنترنت عام 2023، تحت شعار “بناء عالم رقمي يتميز بسعة الصدر وخدمة مصالح الجميع وقادر على الصمود، والعمل معا لبناء مجتمع ذي مستقبل مشترك في الفضاء السيبراني”، خلال الفترة من 8 إلى 10 نوفمبر 2023، في ووتشن حاضرة مقاطعة تشجيانغ بالصين[39].
وقامت الصين في أوائل يوليو 2024، بتنظيم المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي لعام 2024، والاجتماع رفيع المستوى بشأن الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي في شانغهاي، بحضور لي تشيانغ، رئيس مجلس الدولة الصيني. حيث ركز المؤتمر على موضوع “إدارة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير ولمصلحة الجميع”، بهدف إنشاء منصات تعاون وتبادل دولية تتسم بالانفتاح والشمول والمشاركة المتساوية، وتعزيز الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي، وتطوير آلية حوكمة منفتحة ونزيهة وفعالة. وشارك في المؤتمر مسؤولين حكوميين وممثلي منظمات دولية وصناعات وجامعات ومعاهد بحوث[40].
4- توظيف التكنولوجيات المتقدمة: تقوم وسائل الإعلام الرسمية الصينية، وكذلك ممثلو الدبلوماسية الصينية في الخارج، بتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت الدولية، مثل “إكس” (تويتر سابقاً) و”فيسبوك”، في نشر المعلومات وإيصال رسائلها إلى الجمهور الأجنبي المستهدف في الخارج[41].
5- طرح مبادرات دولية في مجال حوكمة الإعلام: قامت الصين بطرح العديد من المبادرات الدولية في مجال حوكمة الإعلام والقضايا المرتبطة به. ففي سبتمبر عام 2020، أطلقت الصين “مبادرة أمن البيانات العالمية”، بهدف وضع حلول صينية لقواعد الحوكمة الرقمية العالمية. وبناء على هذه المبادرة، أصدرت الصين والدول العربية، في مارس 2021، “مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية في مجال أمن البيانات”، مما جعل الدول العربية أول منطقة في العالم تتعاون مع الصين في مجال أمن البيانات[42].
وإنطلاقا من دعم الصين لمبدأ المشاركة الواسعة ومبدأ إتخاذ القرارات على أساس التوافق في الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي[43]، فقد أطلقت الصين في أكتوبر عام 2023، مبادرة لمواجهة الشواغل العالمية بشأن تنمية الذكاء الاصطناعي. حيث أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال كلمة رئيسية ألقاها في مراسم افتتاح الدورة الثالثة لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي في بكين، في 18 أكتوبر عام 2023، أن الصين تعتزم إطلاق “المبادرة العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي”، التي تمثل نهجا بناء لمواجهة الشواغل العالمية المتعلقة بتنمية الذكاء الاصطناعي وحوكمته وترسم خططا للمناقشات الدولية ووضع القواعد في هذا الصدد. إذ تحدد المبادرة بشكل منهجي مقترحات الصين بشأن حوكمة الذكاء الاصطناعي من ثلاثة جوانب، وهي تنمية الذكاء الاصطناعي وأمنه وحوكمته[44].
وفي إطار حوكمة الإنترنت على المستوى الدولي، طرحت الصين مبدأ “السيادة على الإنترنت”، كمبدأ لتنظيم حوكمة الأنترنت، وذلك في مواجهة الرؤية الأمريكية التي ترى ضرورة وجود شكبة إنترنت عالمية ومفتوحة[45]. كما اعتمدت النسخة الخامسة للقمة العالمية للإعلام مبادرة كونمينغ، والتي تضمنت التأكيد على ضرورة قيام وسائل الإعلام بالتوظيف الرشيد لتكنولوجيا الجيل الخامس (5G) والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وابتكار نماذج لجمع الأخبار ونشرها، وتسريع عملية التحول الذكي والرقمي، فضلا عن مواصلة تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية لدول العالم[46].
رابعا: نتائج متباينة للإعلام الرسمي الصيني:
يوضح تقييم جهود الصين في مجال توظيف الإعلام الرسمي، وكذلك توظيف ممثليها الدبلوماسيين في الخارج لوسائل الإعلام الرسمية بهدف تنفيذ أهداف السياسة الخارجية؛ أن بكين نجحت نسبياً في جعل الإعلام أداة ووسيلة قوية لتحقيق أهدافها في سياق علاقاتها مع العالم الخارجي. ومع ذلك، فإن هذا النجاح يواجه العديد من التحديات التي قد تحد من تأثير وسائل الإعلام الرسمية الصينية في تحقيق أهداف الدولة والحزب الشيوعي الصيني الخارجية. وهذا ما يتضح فيما يلي:
1- مؤشرات بارزة على النجاح: هناك مؤشرات عدة تعكس النجاح النسبي للإعلام الرسمي الصيني كأحد أدوات تنفيذ أهداف السياسة الخارجية لبكين. فقد تنامى التعاون الإعلامي بين الصين ومعظم دول العالم، إذ نجحت وكالة “شينخوا”، حتى ديسمبر 2023، في توقيع اتفاقيات تعاون مع أكثر من 3600 مؤسسة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك وسائل إعلامية وإدارات حكومية ومؤسسات للتعليم العالي[47]. كذلك، نجحت وسائل الإعلام الرسمية الصينية في توسيع نطاق انتشارها وحضورها على المستوى الدولي في السنوات الأخيرة، سواءً من حيث إنتاج المحتوى الإخباري والإعلامي الصيني، أم من حيث بث البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تديرها الدولة.
كما نجحت الصين خلال السنوات الأخيرة في تعزيز بناء محتوى الانترنت بنشاط، وشجعت الاتجاهات الحديثة والسليمة، وعمقت حوكمة البيئة السيبرانية، الأمر الذي جعل بناء حضارة الإنترنت يحقق نتائج ملحوظة[48]. حيث شهدت بيئة الإنترنت في الصين تحسنا كبيرا في إطار جهود بكين لتعزيز حوكمة الفضاء الإلكتروني، فقد قامت هيئة الفضاء السيبراني الصينية بإغلاق أكثر من 4800 موقع ومنصة خلال عام 2023[49]. بالإضافة إلى دخول اللائحة الجديدة التي تستهدف العنف في الفضاء السيبراني حيز التنفيذ في الأول من أغسطس 2024[50].
ويمكن تفسير هذا النجاح في دور الإعلام الخارجي الصيني، بأنه جاء نتيجة تطبيق أفكار الرئيس شي جين بينغ حول حوكمة الإعلام، حيث قامت الصين بالآتي:
(1) منح الأولوية لدور الإعلام الخارجي كأحد القضايا المهمة التي تحظى باهتمام الحزب الشيوعي الصيني، منذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب، حيث دفع الحزب بقوة عمل الإعلام الدولي لتحقيق الابتكار مع الالتزام بالطريق الصحيح.
(2) العمل على تنظيم أنظمة الإعلام الداخلي والخارجي.
(3) تشكيل مجموعة من وسائل الإعلام ذات التأثير الدولي.
(4) دفع الثقافة الصينية للتوجه إلى الخارج.
(5) توجيه الرأي العام الدولي، حيث تم بناء نمط متعدد الكيانات وثلاثي الأبعاد وواسع النطاق للإعلام الخارجي.
(6) تعزيز حق الكلام على المستوى الدولي والتأثير الدولي للصين بشكل ملحوظ[51].
2- تحديات متنوعة: يواجه الإعلام الصيني مجموعة من التحديات، منها ما يتعلق بالتعامل مع التقنيات الجديدة في مجال الإعلام، ولاسيما الذكاء الاصطناعي، ومكافحة الأخبار الزائفة[52]. بالإضافة إلى التحدي الذي تفرضه المنافسة الإعلامية الأمريكية للصين، وتحول الإعلام إلى أحد مجالات التنافس والصراع بين البلدين، خاصةً في ظل تزايد لجوء بعض الدول النامية إلى المحتوى الإخباري والإعلامي الصيني، والذي بات يهدد وسائل الإعلام الغربية[53]. الأمر الذي دفع واشنطن إلى اتهام بكين بالتلاعب بوسائل الإعلام العالمية[54]، وذلك في محاولة من جانب الولايات المتحدة، على ما يبدو، لإقناع الدول بأن الصين تقوم بجهد دعائي كبير كجزء من “حرب معلومات عالمية” غير مُعلنة[55]، وهو ما رفضته بكين بشدة، متهمة واشنطن بأنها “إمبراطورية الأكاذيب” الحقيقية[56]. بالإضافة إلى التهم الموجهة للصين بمحاولة التأثير في الانتخابات الأمريكية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو ما وصفته بكين بأنه تهم متحيزة وتكهنات خبيثة، خاصةً وأنها تدعو إلى الاستخدام الآمن للذكاء الاصطناعي[57].
ختاماً، يمكن القول إن الإعلام بوسائله كافة يُعد أحد الأدوات الرئيسية التي تلجأ إليها الصين لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية، باعتبارها إحدى القوى الكبرى في النظام الدولي؛ وذلك بغية تحقيق هدف رئيسي يتجلى في سرد قصة بكين بصورة إيجابية أمام العالم الخارجي، وزيادة تأثير ما تمتلكه من وسائل القوة الناعمة، بما يجعل نموذجها السياسي والتنموي ذي جاذبية لدول العالم، مقارنة بالنموذج الغربي، وخاصةً الذي تمثله واشنطن. وبالرغم من نجاح بكين بشكل كبير في توظيف الإعلام لخدمة أهداف سياستها الخارجية، إذ تُقيم في الوقت الراهن علاقات دبلوماسية مع 183 دولة من دول العالم[58]؛ فإن هذا النجاح يُقابل بالعديد من التحديات التي قد تؤثر سلباً في صورة الصين بالخارج، ما يتطلب ضرورة قيام بكين بدراسة هذه التحديات، ولاسيما النابعة من البيئة الإعلامية داخل حدودها، وطرح الحلول لمواجهتها، لتحسين صورتها وزيادة تأثير قوتها الناعمة، وبالتالي زيادة دورها ومكانتها في النظام الدولي.