شبكة طريق الحرير الإخبارية/
د. الضو خضر أحمد عبد الله [1]
ما فتئت العلاقات العربية الصينية تمضي قدماً في كل صباح جديد على مختلف الأطر مستجيبةً في تأنٍ وجلد لتحدياتها الإقليمية والدولية المتداخلة، باعثها لذلك رغبة الطرفين المتنامية في تشكيل واقع دولي جديد يتنادى ولا يتغاضى عن محاولات بعض القوي الدولية الإبقاء على النموذج الإستلابي القديم الذي خيم على علاقات الشرق الأوسط بمحيطه الإقليمي والدولي لسنوات طويلة من الزمن، وقد ظلت تلك القوي تسعي للإقعاد بعلاقات الصين بالشرق الأوسط في شكلها الجديد بضرب مسلماتها ومرجعياتها والتشكيك في نواياها السلمية التعاونية المعلنة.
تبني العلاقات العربية الصينية في نسختها الجديدة على رسوخها في أعماق التاريخ الإنساني القديم، فقد سارت بها لعصور من الزمن ألسن التجار والرحالة، وتسابقت في توثيقها الدور والأماكن والمحابر السيالة، وحملت أخبارها إلى الآفاق البعيدة رحلات التجارة والقوافل النقالة عندما كانت تأتي إلى الشرق الأوسط في كل صباح جديد محملة بأشكال متعددة من التبادلات على طريق الحرير البري القديم في عصره الذهبي الأول.
وفي إطار الدفع بتلك المسيرة البيضاء وذلك التاريخ التعاوني الناصع وتعميقاً للصلات القائمة بين الطرفين أقامت السفارة الصينية في الكويت بالتعاون مع المركز الثقافي الصيني محاضرة تحت عنوان “الصين والشرق الأوسط” ضمن سلسلة محاضرات المركز الثقافي الصيني في العام 2024، قدم المحاضرة الأستاذ سون ده قانغ مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان الصينية في إطار زيارته الاستثنائية لدولة الكويت صاحبة الجدارة الدبلوماسية ومركز الاستنارة العربية الشامخ في العصر الجديد.
أمّ المحاضرة نخبة من الباحثين والمهتمين بعلاقات الصين بالشرق الأوسط والتي تصنف استراتيجياً بأنها علاقة ذات خصوصية تحمل في طياتها الوعد الكبير والخير الوفير، فهي تنضوي من الناحية الجيواستراتيجية تحت محور دول الجنوب العالمي، المحور الصاعد ذو الحضور الإقليمي والدولي الفاعل، والذي تأطرت فكرته في العقود الماضية وظل يتنامى بشكل متواتر وسريع حاملاً معه فيوض وابداعات الفكر الشرقي ودول الجنوب عامة بمكنوناتها الحضارية، ووزنها التاريخي العالمي، ودورها البارز والمؤثر في البناء الحضاري الإنساني بشكل عام.
تجلت أولى ثمار هذه العلاقات في شكلها الجديد في المواقف والأدوار التي أضحت تؤديها الصين في الشرق الأوسط في ظل التجاهل الدولي لأوضاعه الأمنية المتداعية، وقد استطاعت بكين أن تحدث اختراقات مهمة دون غيرها في أكبر القضايا المحورية ذات الصلة بالأمن الإقليمي العربي واستقرار المنطقة ككل، لا سيما عقب تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي في الآونة الاخيرة، وقد قادت بكين في هذا الإطار جهود المصالحة التاريخية بين حركتي فتح وحماس وتوجتها بتوقيع الطرفين على إعلان بكين في يوليو من العام 2023 في انتصار كبير للدبلوماسية الصينية في ثوبها الجديد في المنطقة العربية.
كما عكفت بكين على ملف آخر بذات الأهمية بالنسبة للسلام في المنطقة العربية، واستطاعت بدبلوماسيتها المعهودة اقناع المملكة العربية السعودية وإيران للجلوس على طاولة التفاوض وتوقيع اتفاق تاريخي قضى بإنهاء القطيعة بينهما والتي استمرت زهاء السبع سنوات، وهي الخطوة التي استصعبتها الدوائر الدبلوماسية الإقليمية والدولية لتفوز بكين بالرهان بإقناعها الطرفين أن الأمن والسلام مكسب بالنسبة لهما، وأن الصراع هو خسارة لكليهما، وأن الهروب من الجوار هو مما لا يمكن تحقيقه مهما طالت بنا الأزمان.
إن أقل ما يمكن أن توصف به الأدوار الدبلوماسية الصينية المعاصرة في الشرق الأوسط هو أنها مساعي حميدة وفريدة تستحق الثناء والتقدير ومن شأنها تعظيم مكانة الصين ورفع أسهمها في المنطقة، كما يمكنها أن تعزز بشكل عملي من صلاتها التاريخية بهذه المنطقة التي تعتبر من الناحية الجيواستراتيجية ضمن المناطق المهمة في العالم وربما أهمها على الإطلاق لعدة اعتبارات وشواهد وأطر.
وتقدم الصين نفسها في العصر الحالي أنموذجاً ومثالاً عملياً في كيفية تجاوز الخلافات الآيديولوجية واعتناق سياسات المصالح، فبرغم خلافاتها الآيديولوجية مع اليابان وكوريا ودول جنوب شرق آسيا إلا أن الصين تتمتع بعلاقات جيدة مع كل هذه الدول، إذ استطاعت بحكمتها بناء المستويات المطلوبة من الثقة مما جعلها تتعايش مع التباينات الكبيرة مع جيرانها، وتعمل على بناء الشراكات، وتبادل المنافع على كافة الأطر السياسية والإقتصادية والدبلوماسية.
وتلعب الصين في إطار ما يسمى بدول الجنوب أدواراً اقتصادية بناءة ومؤثرة ابتدرتها بطرحها لمبادرة الحزام والطريق، وهي مبادرة عالمية يمثل الشرق الأوسط أحد أهم ركائزها وقواها الداعمة، ورافداً مهماً من روافدها الاقتصادية والأمنية اللازمة، والتي على إثرها شهدت حركة الصادرات والواردات بين الصين والشرق الأوسط تزايداً مستمراً مما يعد مؤشراً قوياً للإنفتاح الاقتصادي الصيني العظيم نحو الشرق الأوسط في العصر الجديد.
وبقدر ما مثل منتدى التعاون العربي الصيني أحد أهم المنصات التعاونية المعاصرة بين الصين والدول العربية، فإن ضم أربعة دول شرق أوسطية (السعودية ومصر والإمارات وإيران) لمجموعة BRICS) ) يمثل دليلاً عملياً آخر لأهمية الشرق الأوسط بالنسبة للصين في العصر الجديد، هذا إذا وضعنا في الحسبان أن الصين هي أحد مؤسسي المجموعة الفاعلين وأحد الرواد الكبار في رسم توجهاتها وبناء شراكاتها الإستراتيجية التعاونية الماثلة.
ربما استحقت العاصمة الصينية بكين بجدارة لقب عاصمة التعاون والسلام العالمي لأدوارها المشهودة في التبشير بالتعاون العالمي والشراكات كقيم دبلوماسية رشيدة ذات أثر في تقاسم فرص التنمية والرفاه بين الأمم والشعوب، لا سيما وأن بكين قد دعمت عبر تاريخها الطويل الجهود النظرية والعملية لاستدامة السلام العالمي، والذي ظل يعاني في جوهره كقيمة إنسانية مؤخراً من التناسي، وربما التنكر الفاضح من مؤسساته الرسمية الدولية الراعية، لتسطر بكين في سبيله ملاحم وبطولات بعد ان أوجدت لمناصرته منابر وسواعد ورايات في ظل شراكاتها وصداقاتها الإستراتيجية المعاصرة.
ستبقى الأدوار الصينية الجديدة في الشرق الأوسط أحد أهم الخطوات لبناء علاقات بينية رشيدة واسعة النطاق، على أساس تبادل المنافع والمصالح، وستبقى شراكات الطرفين في هذا الإتجاه أحد أهم القفزات الإيجابية الداعمة لقضايا السلم والأمن الدوليين، لا سيما وان علاقات بكين المستقبلية مع الشرق الاوسط تحمل الكثير من الرؤى التعاونية الواعدة تحت مظلة الأفق الاستراتيجي الصيني المعاصر المتطلع لتعظيم الشراكات الدولية خدمةً للمصير المشترك للبشرية في العصر الجديد.
1- باحث في الشئون الإستراتيجية والدولية – عضو مجلس الإدارة في الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل.