شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية/
بقلم: د. الضو خضر أحمد عبد الله
لم يكن الفكر الإستراتيجي الصيني المعاصر طيف عابر من الأطروحات النظرية في فضاءات التخطيط واستشراف المستقبل، ولم تكن أصوله الفكرية في سابق عهدها مجرد سيناريوهات لصد هجمات الأعداء التي كانت تتهدد الصين وتسعي للإجهاز على إمبراطورياتها على مر السنين، بل ظلت أصول ذلك الفكر تنبت في مواضع جديدة، تنمو وتتمدد في آفاق بعيدة، تتطور وتتفاعل عبر الزمن حتى تمظهرت في عالمنا المعاصر كطرح فكري متماسك ومترابط ذي توجهات سلمية عالمية لخدمة الإنسانية وبناء مستقبلها ومصيرها المشترك.
طرح الفكر الإستراتيجي الصيني المعاصر مالم يدر في مخيلة أمم وشعوب العالم من أفكار تناصر قضاياهم، ومبادرات تخاطب همومهم، وشراكات إقليمية ودولية تقوي من عزيمتهم لمقابلة مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل، بعيداً عن خطل النظريات والآيديولوجيات السائدة التي لم تثمر في حقل الإنسانية سوى النزاعات بين الأمم والحضارات والشعوب، ولم تؤسس في عالم العلاقات إلا مزيداً من الإستغلال والمظالم والحروب.
لم يكن العالم ليبقي في فضاء تلك المعادلات الصفرية متحملاً إفرازاتها، ودافعاً تكلفة صداماتها غير الحضارية التي أسس لها العقل الإمبريالي المعاصر، بعد أن نزع عن العلاقات الدولية قيم الحق والخير والجمال واستعاض عنها بسياسات تكريس التبعية والإحساس بالتفوق التي تهدف إلى تصدير النماذج وتلبية الحاجات، ونهب الموارد وتعظيم الثروات، وإثارة الفتن لتقطيع الأواصر القائمة والصلات، في عالم يتطلع في عصره الجديد إلى مزيد من التواصل وتعزيز المنافع والتبادلات.
ولم يلبث العالم أن استفاق في بدايات هذا القرن على صدى المبادرات الصينية العالمية المتواترة، مبادرة الحزام والطريق (BRI)، ومبادرة الأمن العالمي (GSI)، ومبادرة الحضارة العالمية (GCI) وهي المبادرات التي أحدثت هزات عنيفة في الوعي الإنساني العالمي إذ خاطبت في وضوح قضاياه الآنية، وداعبت في اتحاد أشواقه العملية، وقطعت إلحاقاً لذلك أشواطاً بعيدة في توحيد الشعوب وإيقاظ الضمير العالمي الذي ظل مغيباً لعقود من الزمن في دهاليز الوهم، وأضابير التجهيل المتعمد الذي أسست له الآلة الإعلامية الإمبريالية المعاصرة.
وبالنظر لطبيعة تلك المبادرات نجد أنها تتكامل على نسق فريد في بنيتها الفكرية لإعادة هندسة الأسس النظرية للعلاقات الدولية المعاصرة، فمبادرة الحزام والطريق هي مبادرة عالمية ذات فوائد مستدامة اقتصادية واجتماعية وثقافية يحتاجها العالم بشدة للنهضة الإنسانية الجماعية المرتقبة في العصر الجديد، بينما مبادرة الأمن العالمي هي مبادرة عالمية أخرى لتحقيق سلام مشترك يتناغم مع مقاصد المواثيق الدولية ويتعداها لتحقيق الشعور بالأمن الجماعي الذي يعتبر الحلقة المفقودة في سلسلة قيمة النجاحات الدولية المعاصرة،
أما مبادرة الحضارة العالمية فهي تتويج قيمي لسابقاتها يقوم على مبادئ احترام تنوع الحضارات الإنسانية، والحفاظ على مكاسبها، وتعزيز التبادلات، وتعظيم التعاون، ونشر التسامح، واحترام مختلف الآيديولوجيات مما يعود بالنفع على البشرية كافة، فهي رفض مبدئي ونسف عملي لنظريات التفوق الحضاري، وخطرفات نهاية التاريخ، ونظرية صراع الحضارات التي تؤسس للتطرف والتحيز الحضاري بعيداً عن القيم الإنسانية، وتتضارب مع الأساس النظري للمواثيق الدولية المتوافق عليها.
باركت الأمم والشعوب على نطاق واسع من العالم تلك المبادرات استعصاماً بالرؤى والمضامين والجوهر القيمي الذي تكتنزه، فهي تسترجع في وضوح الروح والتقاليد والأعراف المفقودة في العلاقات الدولية، وتبشر في ثقة بقواعد عالمية وليدة ذات طبيعة خيرة وواعدة ومسنودة تعيد للعالم الصورة الطبيعية للعلاقات الدولية بأنماطها التاريخية المتعارف عليها والمعهودة.
يتعين على مراكز التفكير الإقليمية والدولية Think Tanks“” تكثيف النظر في تلك المبادرات من زوايا صحيحة للكشف عن توجهها الاستراتيجي الرشيد، ومسارها المستدام الآمن والسديد، استكمالاً للأدوار والخطوات البناءة التي ابتدرها الطرف الصيني بطرحه لتلك المبادرات ذات الأبعاد الإستراتيجية، والتي تعبر في جلاء عن أحلام الأمم والشعوب في التنمية والسلام في العصر الجديد.
*باحث في الشئـون الإستراتيجيـة والدوليـة – عضو الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل.