لبنان, أخبار المدينة/
بقلم: وارف قميحة*
*رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني الصيني
خلال العام 2014 قمت بترتيب مجموعتي الخاصة من الطوابع والعملات والبطاقات البريدية التي تحمل صور المساجد التاريخية التي تجسد فن العمارة الاسلامية تحضيرا لمعرضي الذي اقيم في شهر رمضان في العام 2015 في العاصمة اللبنانية بيروت , خلال ذلك العام كان جهدي ينصب على ادارج طابع او بطاقة بريدية من إصدار الصين دون ان أوفق بذلك بإستثناء صورة جميلة وجدتها عبر الأنترنت بادرت الى طباعتها على شكل بطاقة بريدية ووضعتها في المعرض تظهر عظمة وجمال المسجد الكبير في مدينة شيآن الصينية .
منذ ذاك التاريخ ظل يلح علي حلم زيارة هذا المعلم التاريخي والأثري العظيم إلى أن جاءت الدعوة الكريمة من جانب سفارة جمهورية الصين الشعبية في بيروت للمشاركة في مؤتمر ” مسار التنمية الوطنية والتنمية الاقتصادية لبلدان الحزام والطريق 2017″ في الصين حيث كان جدول أعمال المؤتمر حافلاً, وتضمن فيما تضمن زيارة ثقافية الى مدينة شيآن المعروفة بأنها مهد طريق الحرير وواحدة من العواصم السبع القديمة في الصين وباعتبارها المركز السياسي والاقتصادي والثقافي للسلالات المتعاقبة على الحكم من سلالة أسر هان الى أسرة تشين وتانغ وتشينغ .
لا تكتمل الزيارة الى العاصمة شيآن القديمة الا بزيارة أحد أبز معالمها وخاصة المنطقة السكنية الاسلامية حيث ينبسط مجمع كبير من العمارة القديمة والضخمة . إنه المسجد الاسلامي الشهير في الصين مسجد شيآن الكبير. توجهت الى زيارة هذا المعلم التاريخي العظيم الذي لقيت فيه كل حفاوة واحترام , خاصة من ذاك الرجل الجليل الحاج يوسف ما – رئيس لجنة إدارة المسجد – المكتمل الاوصاف والصفات كانت طلعته البهية توحي بسمياء الوجوه المعتمرة طهارة وإيماناً وإنفتاحاً, تحولت الى مركز إهتمام لديه أحاطني بكل ودٍ وحفاوة ورافقني في تجوالي على مختلف أرجاء هذا المجمع فاتحاً لي كافة أبواب الغرف المقفلة التي تحتوي على الغالي والنفيس من التحف والمقتنيات الأثرية مع الشروحات المستفيضة والكافية .
وفقاً للسّجلات التّاريخية المنحوتة على الألواح الحجريّة المحفوظة فيه، تم إنشاء المسجد عام 742 ب.م على عهد سلالة اسرة “تانغ” . لقد مرّ عليه أكثر من 1275 عام وتمّ ترميمه لاحقاً وتوسيعه على عهد سلالة الأسر “سونغ” و “يوان” و “مينغ” و “تشينغ”.
بعد تأسيس الصين الجديدة, وبسبب السّياسات الدينيّة الصّحيحة التي حدّدها الحزب الشيوعي والحكومة الشعبية لأجل الأقليّة القوميّة، أنشأت السّلطات المعنيّة صندوق تمويلي مخصّص لترميم المسجد سنوياً. وبذلك، أصبح تدريجياً ذاك المجمع الكبير والعظيم من العمارة التّاريخية شاملاً عدداً من المباني ذات طوابق والمنصّات والأجنحة والقاعات الجميلة، صُمِّم المسجد وبُنيَ ببراعة توحي بالطّابع الجليل والمحتَرم. يمتدّ هذا الأخير على مساحة اجمالية تفوق ال 13،000 متر مربع, ومبانيه على أكثر من 6,000 متر مربع. بُنيَ على شكل مستطيل من الشرق إلى الغرب وقُسّم إلى أربعة أفنية. يضمّ الفناء الأول قنطرة خشبية قديمة, منتصبة أمام جدار حاجب ضخم, مزخرف بمنقوشات من الطوب الطيني. لها أطناف معقوفة مميزة, وطبقات من الاقواس, و سطح قرميد مصقول، مما يزيدها عظمة. بُنيَت في مطلع القرن ال17 إذ يعود تاريخها إلى اكثر من 390 عاماً. على جانبيها تَصطفّ غرف ذات أثاث قديم و معروض يعود صنعه الى عهد سلالة الأسرتين “مينغ” و”تشينغ” . وسط الفناء الثّاني, و مروراً بالقاعة المؤلّفة من خمس غرف, تَنتصب ثلاث بوابات تذكارية حجريّة موصولة بعضها ببعض، ومدعومة بأربعة أعمدة. نُقشت على أعلى البوابة الرئيسية كتابة بالخطّ الصيني بعنوان: “محكمة السماء” .تطَوَّق هذه البوابات بأسوار حجرية منقوشة, مع ممرين على كلا الجانبين.
تمّ بناء هذا المجمع الحجري على عهد سلالة أسرة “مينغ”.نُصبَت خلفه لوحتين حجريتين مزخرفتين بنقوش على شكل تنانين, و عليهما حُفرت كتابات عن أعمال ترميم المسجد. تم تنفيذ ذلك بأمرٍ من الإمبراطورية على عهد الأسرتين “مينغ” و”تشينغ”. أمّا على خلفيتهم, فحَفر خطّاطان شهيران بعض الرموز الصينية الكبيرة الحجم التي تعتبر اليوم من أفضل الأعمال الفنية الصينية. اما القاعة الإمبراطورية في الفناء الثالث هي أقدم بناء داخل المسجد. تتواجد فيها لوحة حجرية تدعى “قرص القمر” التي نَقش عليها إمام شهير راحل معلومات باللغة العربية, حول كيفية تحديد التقويم الإسلامي.
تُعد تلك اللوحة اليوم كسجلّ تاريخيّ قيّم لتطّور الدّيانة الإسلامية داخل مقاطعة “شنشي”. في وسط الفناء، بُنيَ “برج التأمل” بمثابة مئذنة، إذ هو أطول بناء في المسجد, يُستَعان به لدعوة المسلمين للصّلاة. يتضمن طابقين إثنين، وثلاثة أطناف, وسقف مثمّن الأطراف, يَنتَصب البرج بشموخ ومتانة، مضفياً طابع مثير للإعجاب. تتواجد قاعة الإستقبال في الجانب الجنوبي من المئذنة، أما قاعة المحاضرات، ففي الجانب الشمالي منها, حيث تُحفظ بعناية نسخة عن القرآن الكريم مكتوبة بخط اليد والمأخوذة من عهد سلالة أسرة “مينغ”، وخريطة مدينة مكة المكرمة المأخوذة من عهد سلالة أسرة “تشينغ”.
مروراً بالمداخل الثلاث الموصولة بعضها ببعض والمزيّنة بنقوش حجرية خلاّبة ، يكون الفناء الأخير. أول ما يلمحه الزّوّار هو “جناح الله الواحد” وهو بناء إستثنائي يجمع مدخل وجناح ذات طابع صيني تقليدي. بإعتباره الهيكل الأساسّي في الوسط، بُني الجناح بستّ زوايا مع أطناف معقوفة و قمة بارزة, في حين صُمِّمَت جوانبه على شكل مثلثات ملتوية مشابهة للقناطر.
و بذلك, تبدو العمارة بأكملها كطائر فينيق جميل باسطاً جناحيه ليحلق في العلاء. وبما أنها نابضة بالحياة. أُطلقَ عليها أيضاً لقب “جناح الفينيق”. عُلّقت تحت طنف الجناح لوحة صغيرة مزخرفة بمنحوتات على شكل تنانين، نَقش عليها مسؤول رفيع المستوى من أسرة “مينغ” كتابة بعنوان “إله واحد”. تَصطفّ أيضاً بعض البيوت على جانبي الجناح, الجنوبية منها بنيت خصّيصًا لإستقبال المسؤولين والجنرالات الذين كانوا يحضرون لإعلان مراسيم أباطرة السلالات المتعاقبة. أمّا اليوم، فتُعرَض العديد من الآثار التاريخيّة والثقافيّة من عهد سلالات عائلتيّ”مينغ” و “كينغ” في هذه البيوت, و منها قاطع جميل( فاصل خشبي للغرف) مصنوع من 12 قطعة من خشب البقس و المرصع بحسك السمك، و بعض الطاولات والكراسي والخزف الصينية واللوحات القديمة، إلخ.
و في الغرف الشمالية، تُحفظ ساعة شمسية قديمة مصنوعة من حجر, و ألواح حجرّية نُقِشت فيها معلومات هامة عن المسجد خلال حقبة سلالة “تانغ” و السلالات الأخرى. اذا واصلتم السّير نحو السلالم وصولاً إلى الباحة الكبيرة والواسعة، ستجدون قاعة الصلاة الجليلة. متميزةً بأطنافها وأقواسها الضخمة، وتم تغطيت سطوحها بالقرميد الأزرق المصقول، فيما حفر في سقوفها أكثر من 600 نص مقدس، بحروف ذات أنماط زخرفية ملونة على شكل أعشاب و زهور. وحول جدران القاعة من الداخل،نُقشت صفحات القرآن الكريم كاملةً في 600 لوحة خشبية ضخمة، ثلاثون منها باللغة الصينية، والأخرى باللغة العربية.
انها حقاً نقوش فنية مذهلة ، نادراً ما نجدها في باقي مساجد العالم. كما و يمكن للقاعة أن تستوعب آلاف المؤمنين للصلاة معاً. عام 1956، صدر قرار بإعلان المسجد موقعًا تاريخيًا وثقاًفيا هامًا، تحت حماية حكومة مقاطعة “شنشي” الصينية. وفي عام 1988، تواصل تعزيزه ليصبح أحد أهم المواقع السّياحية في الصين.
منذ أن فُتحت أبواب الصين للعالم عام 1978، إستقبل المسجد ما يزيد عن ال 10،000،00 زائر واخوة مسلمين من أكتر من 100 دولة ومنطقة من العالم, إضافة الى العديد من رؤساء الدول والحكومات. بعد زيارتكم للمسجد، ستكوّنون بالتأكيد فكرة أوضح عن تاريخه و عن حياة المسلمين المحليين في “شيآن”. لا أبالغ , إذا قلت أن بعضا مني لم يكن يقدر على المغادرة ,أعتقد أن روحي ما تزال تحلق في أرجاء هذا المجمع التاريخي . رغم أني أكملت رحلتي في زيارة معالم مماثلة .