بوابة الأهرام المصرية/
أصبح الصراع بين واشنطن وبكين شاغلاً للاقتصاد العالمي خاصة بعد تفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة التي قادتها الصين تستحوذ على 30% من حجم الاقتصاد العالمي بناتج محلي إجمالي يقترب من 26 تريليون دولار، ما يشكل ثلث الناتج العالمي، وثلث التجارة الدولية.
وتسببت سياسات ترامب بقصد أو بدون قصد في تمدد التنين الصيني على مدار فترة حكمه لملء الفراغات التي تركتها واشنطن على مستوى العالم عامةً وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ على وجه الخصوص، ذلك التمدد الذي أثمر عن توقيع اتفاقية تجارية هي الأضخم في التاريخ بين الصين و14 دولة من دول تجمع الآسيان والمحيط الهادئ، لكي تضرب في مقتل المساعي الأمريكية لاستمرار هيمنتها التجارية.
فكيف سيتصرف الرئيس الجديد جو بايدن ؟.. وما هي الأدوات التي يستطيع الاعتماد عليها للملمة ما تبقى من حلفاء بلاده؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في التقرير التالي، خصوصًا أن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة التي قادتها الصين تستحوذ على 30% من حجم الاقتصاد العالمي وتضم أكبر تكتل بشري بواقع 2.2 مليار شخص بناتج محلي إجمالي يقترب من 26 تريليون دولار، وهو ما يشكل ثلث الناتج العالمي، وثلث التجارة الدولية.
بداية النهاية
بداية تسارع الأحداث كان في شهر يناير عام 2017، وتحديدًا بعد ثلاثة أيام من تولي الرئيس ترامب مهام منصبه، قرر انسحاب بلاده من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ التي وقعها سلفه باراك أوباما، مع 12 دولة من حلفاء واشنطن بدول جنوب وشرق آسيا وأوروبا، تلك الاتفاقية التي كانت تشكل حوالي 40% من الاقتصاد العالمي، واعتبرها مراقبون ضربة قوضت مفاوضات بكين مع دول الآسيان جنوب وشرق القارة الصفراء لتوقيع اتفاقية تجارية تضمن السيادة للمنتجات الصينية، بما يعني زيادة توغل نفوذ بكين الاقتصادي والسياسي اللاحق بمنطقة استراتيجية مهمة وهي بحر الصين الجنوبي التي كانت مسرحًا للنزاع منذ ما يزيد على عقدين، خصوصًا وأن تلك الاتفاقية التي قادتها واشنطن كانت مع خمس من أهم دول الجوار للصين وهي اليابان وماليزيا وسنغافورة وبروناي وفيتنام.
أسباب ترامب
أسباب انسحاب ترامب من تلك الاتفاقية المهمة بررها خبراء ومتابعون، بأنها نفس أسباب انسحابه من اتفاقيات أخرى مثل باريس للمناخ والحد من التسلح النووي والحد من انتشار الأسلحة الصاروخية ومؤخرًا اتفاقية السماوات المفتوحة مع روسيا وكندا وتركيا ودول أوروبا مجتمعة، والتي تتلخص في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أمريكا أولا»، بما يعني إعادة الهيمنة الاقتصادية لواشنطن وإعادة الصناعات التي هربت إلى الصين خلال عقود تحت وطأة الضرائب وارتفاع سعر العمالة، وباختصار كان يريد أن يغلق العملاق الأمريكي الباب على نفسه حتى يستطيع إعادة تنظيم صفوفه والتخلص من المشاكل الاقتصادية مثل البطالة وغيرها، ثم العودة للانفتاح على العالم مرة أخرى بشكل جديد أكثر قوة كما عهده خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية لكي يستكمل القيام بدور الشرطي الأول في العالم.
حرب كلامية
وكان ذلك سبب الإجراءات الحمائية التي فرضها على البضائع الصينية واصطدامه بشكل متكرر ببكين وقادتها في حرب كلامية شعواء، لكن الصين كانت ترتب أوراقها في صمت متجاهلة ذلك وخاضت مفاوضات ماراثونية أثمرت عن نجاحها في إقناع 4 من أهم حلفاء واشنطن بالتوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اليابان التي ترتبط مع الصين بعداء تاريخي، وكوريا الجنوبية وأستراليا رغم الملاسنات الأخيرة والحرب السياسية، ونيوزيلندا، بالإضافة لدول الآسيان بروناي وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام ولاوس وكمبوديا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند ومعظمها مرتبط بشراكة بشكل أو بآخر مع واشنطن، وهو ما يعتبر المرة الأولي التي تنضم فيها الصين لاتفاق متعدد الأطراف خصوصًا وأن مبادرة الحزام والطريق بضخامة حجمها أبرمت من خلالها بكين اتفاقيات ثنائية من الدول الأعضاء ومنها الواقعة علي طول طريق الحرير القديم.
خطط بايدن
يشكك الخبراء والمراقبون كما أسلفنا سابقًا، في نية الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن بالتراجع عن القرارات التي اتخذها سلفه، خصوصًا وأنه لم يؤكد أو ينفي إمكانية عودة واشنطن لاتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ وقال بأن ذلك أمر سيتم دراسته، فيما أكد أن أمريكا تشكل 25% من الاقتصاد العالمي، وإذا استطاعت إبرام اتفاق تجاري جديد مع حلفائها فإن النسبة قد تصل لـ50%، وتهرب من سؤال صحفي حول الانضمام ل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الصينية، مبديًا تحفظه وهو يقول: “لم أصبح الرئيس بعد”.
لكن وفقًا للخبراء يفهم من سياق تصريحاته ومواقفه السابقة أنه متحفظ علي الصين وسلوكها التجاري ووجود عدة اتهامات لها في جعبته أهمها التجسس وسرقة التكنولوجيا، فضلا عن ملف حقوق الإنسان، ما يدلل علي أنه سيسير علي نفس نهج سابقيه بالحديث عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية بالصين مثل الأويغور والتبتيون وأهل هونج كونج وحكومة تايوان، وسيسعي من تعزيز التواجد العسكري الأمريكي لتضييق الخناق حول بكين بالقواعد الأمريكية الموجودة ب بحر الصين الجنوبي وفي كوريا الجنوبية واليابان، والسير عكس توجه ترامب بالانسحاب العسكري التدريجي من العالم لتعزيز انتشار التواجد الأمريكي وإجراء مناورات عسكرية تستفز الصين مثلما كان الحال في عهد من سبقوا ترامب .
ولعل نشر الجيش الأمريكي قاذفات من طراز «بي 52» في الشرق الأوسط مؤخرًا، يدلل علي أن قيادة الجيش في البنتاجون تسير علي فكر الرئيس الجديد، وتلغي تحركاتها السابقة في عهد ترامب ، وإذا نظرنا لقرار الأخير الغريب بإقالة وزير الدفاع مارك إسبر سنعرف أن توترًا يسود العلاقة بين الجالس علي المكتب البيضاوي في واشنطن وقيادة الجيش في ولاية فرجينيا حيث مقر البنتاجون.
من ناحية أخرى، كشف باحثان في تقرير لمعهد «بروكنجز» الأمريكي، أنه علي واشنطن أن تكيف سياساتها مع الحقائق المتغيرة في شرق آسيا، والاعتراف بالدور المتزايد للصين، ونضوج تكامل تجمع الآسيان ، وتضاؤل التأثير الاقتصادي النسبي لأمريكا.
مكاسب الصين
لكن بعيدًا عن خطط بايدن، فالأمر الواضح هنا أن جولات المفاوضات الثلاثون التي خاضتها الصين علي مدار 8 سنوات مع تلك الدول و18 اجتماع وزاري، كانت ستذهب سدي لولا السياسات الحمائية وانسحاب ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، حيث قبلت تلك الدول الاتفاقية التي تقودها الصين رغم أنها تلغي 90% من التعريفات الجمركية في التجارة بينها في حين كانت النسبة تصل في الأولي لـ100%، ما يعد نصر جيواستراتيجي مهم للصين وليس اقتصادي فقط، حيث تزيد من اعتماد حلفاء مهمين مثل اليابان وأستراليا علي سلاسل التوريد الصينية، ما يمنح بكين نفوذ أكبر عليها يجعلها تخرج من الحظيرة الأمريكية للفناء الصيني وهو أحد أهم مكاسب التنين الصيني.
معاقبة أستراليا
ملامح ذلك النفوذ ظهرت فيما يعاني منه الاقتصاد الأسترالي منذ ستة أشهر من الإجراءات العقابية الصينية بسبب مطالبة كانبرا بفتح تحقيق دولي في أسباب انتشار وباء كورونا واتهام الصين رسميًا بالتسبب فيه، حيث منعت الصين استيراد ست سلع أسترالية مثل الشعير والنحاس والفحم والقمح، وهي إجراءات تنبئ ما قد تستطيع بكين أن تفعله مع حلفاء أمريكا مستقبلًا، خصوصًا دول بحر الصين الجنوبي التي ظلت خلال أخر عقدين تنازعها السيادة علي جزر بحر الصين الجنوبي وتعارض بناءها جزر سبراتلي المرجانية، فضلا عن مكسب أخر وهو أن الاتفاقية تضيف 200 مليار دولار سنويًا للاقتصاد العالمي سيكون للصين نصيب الأسد فيها.
أسباب عدم انضمام الهند
مكاسب الصين كانت ستتضاعف لو انضمت الهند للاتفاقية بوصفها ثالث أكبر اقتصاد بالمنطقة بعد الصين واليابان، لكن يبدو أن انسحابها من المفاوضات نهاية عام 2019 ليس نهائيًا خصوصًا مع وأن طريقة تعامل نيودلهي مع بكين سوف تتغير بالتأكيد بعد قدوم رئيس أمريكي جديد تعهد بالعودة لتفعيل دور واشنطن بمنظمة التجارة العالمية، بما يعني توجه جديد للحليف الأقوي الذي تعول عليه نيودلهي.
وإذا نظرنا لقرارات حكومة ناريندرا مودي نجدها تتشابه مع قرارات ترامب بخصوص حظر التطبيقات الصينية وعدم منح شركة هواوي وZTE امتياز تطوير شبكة الـ5G، كما كان هذا التصعيد سببًا في التوتر الذي وقع علي الحدود المشتركة يونيو الماضي، ولكن المخاوف الهندية الأكبر هو أن يضيع اقتصادها القوي تحت عجلات قطار الصين السريع، خصوصًا وأن حجم العجز في الميزان التجاري بين البلدين يصل لـ 48 مليار دولار لصالح الصين حاليًا، وهو رقم مرشح لأن يتضاعف في حال إذا دخلت الاتفاقية سالفة الذكر وفتحت أسواقها للبضائع الصينية الأرخص، وهو ما لن يزيد في عجز الميزان التجاري فقط ولكنه سيوجه ضربة قوية للصناعة الهندية التي تعتبر مرتفعة في تكاليفها عن نظيرتها الصينية وتحول الهند لمجتمع استهلاكي يستورد احتياجاته من الصين، حيث تستورد نيودلهي منتجات قيمتها 75.5 مليار دولار من بكين، فيما تستورد الأخيرة منتجات هندية قيمتها لا تتعدي 16.6 مليار دولار، وذلك، وفقا لأحدث إحصائيات للأمم المتحدة عن عام 2018.
الاتفاقية الأخيرة من شأنها تحسين التجارة الإقليمية في وقت يكافح فيه الاقتصاد العالمي، لتجاوز تداعيات وباء كورونا التي تسببت بأكبر ركود منذ الكساد الكبير خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث تغطي الاتفاقية كل شيء بدءًا من التجارة والخدمات للاستثمار والتجارة الإلكترونية والاتصالات وحقوق النشر، وستجعل كل عضو بالاتفاقية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.
كما ينظر للاتفاقية علي أنها زلزال ينقل عمليًا قيادة التعددية الاقتصادية والتجارة الحرة، وباختصار العولمة الجديدة إلى الصين وحلفائها، بينما يتزايد نزوع أمريكا إلى الحمائية ورفض المعاهدات والاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف، كما أنها المرة الأولي التي توافق فيها القوي المتنافسة بشرق آسيا مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية علي الدخول في اتفاقية تجارة حرة مشتركة، كما تشكل مزيجا من الاقتصاديات المتقدمة والنامية والفقيرة.