متخصص في الحضارة والتاريخ الصيني، جامعة ذي قار- كلية الاثار
شبكة طريق الحرير الإخبارية/ CGTN العربية
متخصص في الحضارة والتاريخ الصيني، جامعة ذي قار- كلية الاثار
أنَّ العصر الذي عاش فيه كونفوشيوس، قد اتسم بالتفكك السياسي والاجتماعي، والتردي الواسع النطاق للأخلاق، وكان من الطبيعي في ضوء هذه الأوضاع، أنّ يتجه كونفوشيوس إلى إصلاح حال المجتمع، وقد عرف العمل الشاق والمعاناة، والمسؤولية في سنٍّ مُبكرة، وأدرك بالتجربة الشخصية، الفقر وسوء استعمال السلطة السياسية، والشدة والضيق، التي تركت آثارها في الناس العاديين، ومما لا شك فيه أنَّ هذه الخلفية قد ساعدته على فهم كُل من الحكومة ومُشكلات العامة.
رأى كونفوشيوس أنَّ التاريخ الصيني قد استرشد بقوة الخير من السماء، وكان يتجلى بأفعال الملوك الحكماء في الماضي، وقد حوَّل هؤلاء الصين من الحياة البدائية البربرية حيث “حكم السلوك الغاشم” إلى مجتمع تحكمه المعايير الأخلاقية والمشاعر الإنسانية للآخرين.
وكان كونفوشيوس ينظر إلى فوضى العالم من حوله كمرحلة مؤقتة من الصعود نحو الكمال، وربط ظاهرتين في المجتمع المعاصر له: انتقال السلطة بحكم الأمر الواقع من (الأسر الشرعية) إلى عائلات أمراء الحرب الذين دافعوا عن السلطة في الحرب أولًا، وما رآه ثانيا: انحرافًا عامًا للأخلاقيات الاجتماعية، والقواعد المشتركة للآداب.
وقد آمن كونفوشيوس أنَّ (الاضطراب السياسي)، سببه الاضطراب في العلاقات الاجتماعية وتبنى نظامًا سياسيًا معنيًا بالتزامات واضحة، يواكب النظام الأخلاقي للمجتمع الذي ينشده. وكان المعلم كثير التمعّن في النظر إلى الخلف، والتأمل في قوة الإمبراطورية السابقة، والثقافة التي انتعشت فيها، باحثًا عن الحلول للمشكلات المعاصرة.
إنَّ الوعي التاريخي الحاد، أجبر كونفوشيوس وزملاءه من الفلاسفة على التأمل بالعصر الذهبي الضائع لسلالة تشو، من أجل إعادة بناء دولة مثالية، على غرار ما أسسه الملك القدير (ون وانغ) مؤسس مملكة تشو.
وكانت قناعة كونفوشيوس أنَّ أنماط الطقوس كانت موجهة للبشرية، ليس فقط من قبل حكام الماضي، بل من السماء نفسها، والتي بطريقة فضفاضة توجه جميع الأحداث البشرية. وفي زمن الظلام الثقافي الذي عاش فيه كونفوشيوس، كان توجيه الخير من السماء في الواقع موضع تساؤل لكونفوشيوس، لم تكن الحقيقة الرئيسة هي فوضى العصر، ولكن حقيقة أن إنجازات الماضي كانت لا تزال معروفة وقادرة على إحيائها، ويبدو أنه قد نظر إلى نفسه على أنَّه العامل المتجه لإحيائها.
تنطلق نوازع كونفوشيوس ومؤثراته الفكرية مما رآه من التناقض الظاهر بين الواقع الحاضر البائس، وبين الماضي المزدهر لبلاده، ففي الوقت الذي كان يعبّر فيه عن تألمه حيال مآسي واقع البلاد، وانهيار النظم المختلفة، كان يظهر شغفه بالتراث الثقافي والحضاري لأسرة تشو وللاستقرار السياسي السعيد لها، وتعزو الروايات التاريخية القديمة، هذا الاستقرار السياسي والإبداع الثقافي إلى مؤسس أسرة تشو الملك القدير (ون) سنة 1122 ق.م، وإلى حكمة دوق تشو الوصي على تشينغ (1043-1006 ق.م) ابن الملك وو.
فقد كان من الواضح جدًا لكونفوشيوس، أنَّ مشكلات الشعب تنبع من السلطة الحاكمة التي تُمارَس بغير مبدأ أخلاقي، ولمجرد تحقيق مصلحة الحاكم ورفاهيته فحسب، ومن هنا كانت دعوته إلى الإصلاحات الاجتماعية، التي من شأنها أن تسمح بأن تُدار الحكومة لمصلحة الناس جميعًا.
قال كونفوشيوس: “مَنْ يحكم بلدًا مترامي الأطراف، عظيم الاتساع، فليحرص على الجد في سياسته وليضع ثقته في مواطنيه، وليحذر من التبذير، وليقرب إلى مجلسه الأجدر والأعقل”.
وقد شدّد على أن ذلك يمكن القيام به، إذا كان أعضاء الحكومة ممَّن يتميزون بأقصى قدر من الاستقامة الشخصية، ويتفهمون احتياجات الناس، ويهتمون بمصالحهم وسعادتهم، قدر اهتمامهم بأنفسهم، ولأنَّه كان يعيش في مرحلة تاريخية من الفوضى والظلم، ومتألمًا من التعاسة والشقاء العام، فقد أدرك أنَّ الحلّ الوحيد كان إصلاحًا جذريًا للحكم المنجز من قبل رؤساء متنورين، والمُطبق من قبلِ مسؤولين موظفين.
وتُلقي المبادئ السياسية عند كونفوشيوس الضوء على هذا الهيكل السياسي الذي يعتمد أساسًا على الأخلاق، بحيث تختفي الحقوق السياسية لتحل محلها الواجبات، فهو يقول: “إنَّ الحكومة الصالحة تُحقق السعادة للشعب، والسعادة هي الخير، لأنَّ هدف الحكومة أخلاقي في نهاية الأمر”، وفلسفته السياسية في الحكم تقوم على ثلاثة مبادئ رددها كثيرًا في كتابه المحاورات: “إنَّ أسس الحكم تتمثل في ثلاث: احتياط من غذاء وافر، وقوة جيوش ضاربة، وثقة بين الحاكم والمحكوم”.
وكان كونفوشيوس واحدًا من الرجال القليلين الذين أثَّروا تأثيرًا عميقًا في التاريخ البشري، بقوة مواهبهم الشخصية والعقلية، وبقوة إنجازاتهم. ولا يمكن تفسير حقيقة ظهور مثل هؤلاء الرجال على المسرح تفسيرًا كاملًا، ولكن بتتبع ظروف حياتهم نستطيع على الأقل أن نزيد قدرتنا على فهمهم، ولهذا سنحاول أن نبدأ بحياته السياسية ثم أثره الفكري في الصين القديمة.
(ملاحظة المحرر: يعكس هذا المقال وجهة نظر الكاتب، ولا يعكس بالضرورة رأي شبكة طريق الحرير الإخبارية.)