بقلم وانغ يوي
نائب رئيس أكاديمية البحوث لأفكار شي جين بينغ بجامعة الشعب الصينية.استاذ العلاقات الخارجية في جامعة الشعب ، ومن اهم خبراء الصين في الشؤون الدولية
“يتكون البيت من طابقين : العلوي والسلفي، ويوجد فيه المصباح والتلفون“، كانت هذه هي أول جملة لفتت انتباهي عندما قرأت كتابي الدراسي خلال المدرسة الابتدائية، وكنت أعتبر هذا المشهد هو الحلم الصيني لانجاز التحديث آنذاك. كنت أعيش في عائلة كبيرة جدا، كانت أمي أكبر الأولاد سنا من بين تسع بنات في عائلة جدي، لذا تحملت والدتي مسؤولية رعاية والديها وأشقائها منذ وقت مبكر، الامر الذي اضطر ابي الى الانتقال للعيش في بيت أمي . هذا الوضع حمل ايم مسؤولية رعاية أخواتها الثماني الأصغر سناً اضافة الى الاعتناء بأطفالها الخمسة فضلا عن أخي الأكبر الذي أحضره والدي من زواجه السابق. في ذلك الوقت كانت الحقيقة هي أنه يصعب علينا إطعام أنفسنا ناهيك عن التفكير في التحديث.” هل تناولت طعامك؟“، كانت هذا التحية المعتادة التي اسمعه من سكان القرية . لأننا لا يمكن التحدث إذا كنا نتضور جوعا..
كان حلم طفولتي هو أن أتناول وجبة ساخنة، وفي ذلك الوقت كان يمكن ،خلال عيد ميلادي، أن أتناول بيضة واحدة تم سلقها في القدر المخصص لطبخ أعلاف الدواجن. كنت أتطلع إلى عيد الربيع الجديد حيث يمكنني أكل اللحوم. أتذكر تجربة مؤثرة خلال زيارتي لمعايدة أحد اقاربي الذي قدم لي طبقا من المكرونة الساخنة، مع فخذ دجاج . كانت هذه وجبة لذيذة قيمة جدا بالنسبة إلي، لذا دفنت رأسي في الوعاء وأكلته بأسرع وقت ممكن، لكن فجأة لاحظت علامة كئيبة على وجه قريبي، اتضح أن فخذ الدجاج هذا هو الوحيد لديه للضيافة. كان يتصور ان ألا يأكله أي ضيف انطلاقا لاعتبارات الخجل . وكان يخطط للاحتفاظ بفخذ الدجاج للضيف التالي. فقد كان اقراء الضيوف للمعايدة يعتمد على هذا الفخذ !
منذ طفولتي كنت أحسد دائما الناس الذين يعيشون في المدن ولديهم الطعام حتى ولو دون الزراعة، بينما كان لدينا فقط البطاطا الحلوة للأكل علما اننا ن نزرع بجد واجتهاد! من حسن الحظ أن يقوم والدي بالتعليم في المدرسة بدوام جزئي، ووكانت لدينا بعض قسائم الحبوب الإضافية التي توزع نهاية الشهر، واحيانا كنا نعرض على جيراننا الأرز مقابل البطاطا الحلوة لكي يساعدونا في تقطيع الحطب..
اليوم ، ابني لايمكنه ان يشاهد قسائم الحبوب أو أدوات الزراعة سوى في المتحف. فكيف حققت الصين التحول من ندرة الطعام إلى الاهتمام بالتغذية الدقيقة؟
يمكن أن تصبح قصة أسرتي مثلا ، وكانت اسباب هذا لبتحول تكمن فيما يلي:
أولا، يعتمد التقدم على العمل الجاد والتنسيق الجماعي. هل تعرف- قبل سياسة الاصلاح والانفتاح- لماذا كان الفلاحون الصينيون الذين عملوا بجد في الزراعة يفتقرون الى الطعام؟ ذلك لأن في ذلك الوقت يكان لى كل فلاح ينبغي على كل الفلاحين بيع منتجاتهم الزراعية الدولة بثمن منخفض.حيث ان الارض كانت مملوكة للدولة، كما كان الفلاحون مطالبين بدفع الضرائب الزراعية التي استمرت حتى عام 2006. بعد إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح، راكمت البلاد ثروة من خلال النهوض الصناعي الزراعي. حصلت على المزيد من الأموال لإعادة الإنتاج الصناعي من خلال تأجير الأراضي وتعزيز الاستثمار. هذا يختلف كثيرا عن التحديث في الدول الغربية اذي يعتمد على الثروة المنهوبة الناجمة عن الاستعمار في الخارج. في ظل الإصلاح الانفتاح نجحت مسقط رأسي بلدة ريوشيغانغ في جمع الأموال للتصنيع والبناء الحضري، وفي غضون عقدين فقط، تحولت هذه البلدة الصغيرة إلى مدينة حديثة.
ثانيا، يعتمد التقدم على الحكومة المسؤولة والسوق الفعالة. إن الحكومة تخلق الدولة والدولة هي التي تخلق السوق وثم السوق يخلق المجتمع ،والمجتمع يصنع الحضارة. بعد انتهاء الثورة الثقافية الكبرى، استعاد أبى منصبه وانتقلت عائلتي إلى مركز المحافظة ،واشترينا بالتعويض الحكومي أول تلفزيون ملون حجمه 14 بوصة بعلامة فوري المشهورة، مما جذب غبطة الجيران. على الرغم من هذا، بقيت معيشة عائلتي صعبة. عندما انتسبت الى الجامعة، حيث خرجت لأول مرة من البلدة الصغيرة إلى مدينة شنغهاي الكبيرة، لكنني ما ازال أعاني من الجوع، وأشعر بالنقص دائما. لم اكن أجرؤ على التحدث مع الزميلات إلا عندما كنت اطلب قسائم الحبوب منهن مقابل تقديم الماء الساخن لهن.
السؤال الان : ما هو المنطق الثقافي للتحديث ذي النمط الصيني ؟ انه المساعدة المتبادلة ،والحفاظ على الحب للبيت والوطن. تأسس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، وتأسست الصين الجديدة عام 1949، منذ ذلك الوقت، بدأت الدولة تخلق السوق من خلال تطبيق خطة البناء في مناطق الخط الثالث ومشاريع البنية التحتية الكبيرة. مثلا تم تشغيل السكك الحديدة وفتح قطاعات السياحة والعقارات في المناطق الساحلية، وتم بناء المجموعات الصناعية والحزام الاقتصادي، وسعت الحكومة إلى التخلص من الفقر وإرشاد الشعب إلى الرخاء ودفع سيول الموارد البشرية والمنتجات والأموال والمعلومات وغيرها من عناصر الإنتاج لتشكيل السوق الموحدة في أنحاء البلاد. عندما تم تشكيل السوق، نشأت روح العقود ، وثم تطوير القانون مع تنمية المجتمع لكي تتقدم الصين من مجتمع القرابة إلى المجتمع الخاضع لسيادة القانون وانجاز مهمة تجديد الحضارة الصينية أخيرا .
ثالثا، يعتمد التقدم على الاستقلال والتمسك بزمام المبادرة و الحفاظ على الأصل والمثابرة على الابتكار. كانت الحرب الكورية تجعل الصين بعيدة عن أمريكا، وفصل الخلاف الصيني -السوفياتي الصين عن الاتحاد السوفياتي، مما أدى إلى اعتماد تنمية الصين على نفسها. أما بالنسبة إلى الحفاظ على الأصل فذلك يعني التمسك بالفكر التنموي المتمحور حول الشعب. ثم ان المثابرة على الابتكار تتطلب منا ألا نسيرفي الطريق الغربي ، بليتحتم علينا ان نكتشف الطريق الجديد المناسب لنا. لم تحقق الصين التحديث فقط بل ابدعت نمطا جديدا للتحديث ، ومنحته مغزى حضاريا جديدا.
لفترة طويلة، ساد اعتقاد أنه من المستحيل للصين أن تحقق التحديث باعتبارها بلد يضم ما يقرب من خمس سكان العالم. وهنا أيضا يكمن السبب الضمني لنظرية التهديد الصيني الشائعة بين الدول المتقدمة. قبل عشرين عاما، تساءل المجتمع الدولي دائما” من سيطعم الصين؟“.
في 15 إبريل عام 2010 ،كان الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما يقول خلال مقابلة مع هيئة الإذاعة الأسترالية إنه إذا عاش الشعب الصيني الذين يتجاوز عدده مليار نسمة بنفس مستوى مع الشعب الأسترالي والأمريكي، فسوف يغرق العالم كله في وضع مأساوي ولا يمكن أن تتحمل الكرة الأرضية مثل هذا الضغط الشديد.
كانت الحقيقة هي أنه على الرغم أن مساحة الصين تساوي مساحة أمريكا، إلا أن الأراضي الصالحة للزراعة في الصين فقط تساوي نصف ما في أمريكا، وكان عدد سكانها أربعة أضعاف سكان أمريكا ،ناهيك عن خط هيهي-تنغسونغ الذي يقسم الصين إلى قسمين من حيث الكثافة السكانية.
يحتل قسم جنوب الشرقي 43.41% من إجمالي مساحة الأراضي الصينية، ولكنه يمتلك 93.68% من إجمالي السكان. وعلى العكس كان القسم الشمال الغربي شاسع المساحة، قليل السكان ويعاني من نقص المياه. كيف نحقق التحديث أمام مثل هذه التحديات؟ لا بد أن نستفيد من التعديل الشامل الوطني، ونبني شبكة التواصل والترابط في أنحاء البلاد، وننشأ علاقة المساعدة المتبادلة بين المناطق المتقدمة والمتخلفة.
خلال هذه العملية، لعبت الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة دورا كبيرا في توصيل الكهرباء من الغرب إلى الشرق و اقامة التعاون بين الغرب والشرق في بناء البيانات الضخمة والحوسبة السحابية، مما ساعد في التخلص من الفقر وتحقيق الرخاء المشترك.
كان التحديث ذو النمط الصيني يجمع بين الفهم المتبادل للناس والمعارف بين الناس والمجتمع والطبيعة والتعارف المتبادل بين الدول، هذه التجربة د تجاوزت التجربة الغربية. ناهيك عن الدولة النامية الأخرى