إن لتعلم اللغات كَكُل واللغة الصينية على وجه الخصوص، سحر وجمال لا يعلمه إلا من خاض تجربته، من جرّب أن يتحدث بألسنة مختلفة، أن يفكر بطريقة شخصيات مختلفة ليناسب حديثه موقعه عند السامع، الأمر أشبه بأنك تعيش بشخصيتين في مجتمعين مختلفين، أن تغوص في عالم التعابير المحلية من مناظير مختلفة متأثراً بثقافات متنوعة، أن تسافر وتجوب العالم قاطعاً فيافٍ ومحيطات كانت لتستغرق منك عمراً كاملاً لتعبرها لتتعرف على العوالم الكائنة خلفها، ولكنك بفضل تعلم اللغات ستصل إلى مبتغاك وتعرف تلك البلدان حق معرفة بكل بساطة فقط حين تعرف لغة أهلها.
الأمر لا يتوقف فقط على سياحة اسفيرية، بل ستمتلك تذكرة مدفوعة التكاليف لتنهل من العلوم ما شئت متى تشاء و يا لحظك الوافر إن استطعت أن تنقل ما تعلمته وقرأته لأهلك، الحظ والنصيب من العلم الذي قد يحصل عليه ترجمان أمّة ما في جميع الأزمان أكثر منه ممن يتلقاها منقّحة جاهزة للتلقي.
لا أريد أن اختزل هذا المقال المتواضع في نقاط فوائد تعلم اللغات ولكنني أرغب في نقل الصورة من عدستي الخاصة كمتحدثة باللغة الأصعب في العالم ودارسة لأحد أصعب اللغات كذلك، لا أرى بأن وصف “الصعوبة” مُنصف في حق تعلّم اللغات، بل أرى تلك الدرجة من التفرّد في الخصائص ميزة من ميزاتها.
على الصعيد الشخصي هذا ما وجدته وأكثر في دراستي للغة الصينية، قد لا أبالغ إن قلت بأن دراسة اللغة الصينية قد غيّرت حياتي، غيرت نظرتي لنفسي، فقد اعتدت أن أشعر دوماً بأن للآخرين ما يميزهم ويخيّرهم عني وأن لا شيء مميز في حياتي، ولكن تعلم اللغة الصينية قد حولني لشخصية مُتحدّية تعشق الصعوبات وتواجهها، شخصية تمتلك قدراً من الثقة يسمح لها بالوقوف أمام الآلاف للتعبير عن نفسها وتقديم هواياتها بلا خجل أو خوف، لازلت أذكر أول صعود لي على خشبة المسرح، كم كنت خائفة تتضارب أسناني وقدماي كمعزوفة لأوركسترا متكاملة، أما اليوم وبعد أربعة أعوام من المشاركة المستمرة في الفعاليات التي ينظمها قسم اللغة الصينية ومركز التبادل والتعاون المعني بنشر اللغة، من مسابقات للإقاء الشعري وسرد للقصص وقراءة الخطابات وتقديم البرامج وكذلك التمثيل، وجدت من نفسي ميلاً نحو تلك الفنون، فلك أن تتخيل أن عائشة التي كانت تعتقد أنها بلا موهبة قد حازت على المركز الأول على مستوى العالم في مسابقة للمواهب عبر تأديتها لشخصية جدة صينية تقليدية كمُتحدّثة بلهجة محلية لفتت لجنة التحكيم وقد كتبت عنها السفارة الصينية بالسودان، أعلم أن الأمر صعب التصديق فعائشة نفسها مذهولة من هذه النقلة الكبيرة والتحوّر في شخصيتها، ناهيك عن أنني حزتُ على جائزة أفضل موهبة وأداء في جميع المسابقات التي شاركت بها على مستوى الجامعة والسودان في مسابقتي إلقاء الشعر و جسر اللغة الصينية، هذا ولازلت على العتبة الأولى في سلّم تعلم اللغة الصينية.
لعلّك عزيزي القارئ قد وصلت إلى هنا وانت مدرك لأنني لم أبالغ حين قلت بأن دراسة اللغة الصينية قد غيّرت حياتي، بالرغم من جميع التحديّات التي واجهتها من اعتراض للمعارف واستصعاب لدخول المجال من الأهل، وجدت نفسي هنا بين تلك الرموز الغريبة والنغمات الفريدة، فأثناء تحدثك للغة الصينية أنت تستحضر جّل تركيزك حتى لا تسهو وتمد حرفاً لتغير نغمته فتغيّر بذلك المعنى، لغة تعلّمك أن تصبح نبيه حصيف لتتمكّن من مفاتيحها الأساسية. الأمر الذي يثير إعجابي حول دراسة اللغة الصينية هو أنها كل يوم في حالة من التجدد لاسيما في سبل التعلم ومجالات العمل، على سبيل المثال تجد من يستمع إلى الأوبرا الصينية والأعمال التقليدية فيقوي بها لغته، تجد آخراً يقوم بدبلجة الأعمال الفنية فيمارس بذلك التحدث بأمثل طُرِقه، وآخر يعشق الرموز ويستمتع بقراءة قصص مصادر تكوين تلك الرموز وكيف تدرّجت حتى وصلت لشكلها المبسط، هذا التنوع في السُبل يساعدك أن تتعلّم بالطريقة التي تناسبك ولا يدع لك مجالاً سوى أن تستمتع بعمليّة التعلّم. هذا التنوّع في طرق اكتساب اللغة يعود إلى عمق الثقافة الصينية وارتباط اللغة بتلك الثقافة ارتباطا ًوثيقاً.