ففي العاشر من نوفمبر 2009 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة, تاريخ 18 يوليو من كل عام, يوما للاحتفال ب”اليوم الدولي لنيلسون مانديلا” الذي يصادف ذكرى ميلاد ايقونة النضال ضد نظام الفصل العنصري (الابارتايد) في بلاده, وهو النضال الذي مكنه من أن يصبح أول رئيس منتخب لجنوب افريقيا.
وقد طبق نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا عقب انتخاب حكومة “الحزب الوطني” اعتبارا من عام 1948, كنظام سياسي مؤسساتي من خلال العديد من القوانين والافعال, عبر سيطرة وهيمنة البيض, و اقصاء غالبية سكان البلاد ذات البشرة السمراء.
و استمر هذا النظام حوالي نصف قرن, قبل أن يسقط رسميا في عام 1991 بفضل نضال مانديلا المستميت ورفقائه في حزب المؤتمر الوطني الافريقي والذي كلفه حكما بالسجن مدى الحياة في عام 1964 بعد ادانته بتهمة “التخريب”.
وفي اطار هذا النضال, لفتت مذبحة “شاربفيل” عام 1967, انتباه العالم إلى القمع الوحشي لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا, ما أدى إلى تعرض البلاد لعزلة دولية وتراكم العقوبات الدولية ضد هذا النظام الذي تعرض للطرد من هيئات الأمم المتحدة وفرض حظر أسلحة عليه.
وأمام تلك الاجراءات الردعية وفي فبراير 1990, أجبر رئيس البلاد فريدريك دو كليرك الذي كان قد تولى السلطة قبل خمسة أشهر, على الاعتراف بالمعارضة ممثلة في المؤتمر الوطني الافريقي. و أفرج عن نيلسون مانديلا في 11 فبراير من نفس العام, بعد 27 سنة قضاها في السجن. ليتم بعدها في 30 يونيو 1991, إلغاء نظام الفصل العنصري رسميا في جنوب افريقيا.
كما توجت نضالات نيلسون مانديلا في أبريل 1994 بتنظيم أول انتخابات متعددة الاعراق, طاوية صفحة نظام الفصل العنصري. و أسفرت عن انتخابه رئيسا ليطلق كلمته المشهورة “أحرار أخيرا”.
دعوة الى الاسترشاد بروح مانديلا لإحداث التغيير وبناء عالم أفضل
وجاء اعتماد قرار الاحتفال باليوم الدولي لنيلسون مانديلا “اعترافا بإسهامات الرجل البارزة في إنشاء جنوب افريقيا ديمقراطية غير عرقية, ودفاعه بلا هوادة على ثقافة السلام والحرية وتفانيه في خدمة البشرية”.
وتحسب الامم المتحدة لمانديلا “اهتمامه بالقضايا الإنسانية, في ميادين حل النزاعات والعلاقات العرقية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها والمصالحة والمساواة بين الجنسين وحقوق الأطفال وسائر الفئات المستضعفة. كما عمل على تحسين أحوال الفقراء والمجتمعات المتخلفة النمو, وساهم في الكفاح من أجل الديمقراطية على الصعيد الدولي, وفي الترويج لثقافة السلام في شتى أرجاء العالم”.
وقد تم اختيار الشعار لهذا اليوم الدولي ليكون “اجعل كل يوم ليكون يوم مانديلا”, إذ يجب على الجميع الاحتفال بهذا اليوم والإسهام به بعمل كل ما يمكن أن يحدث التغيير للأفضل, وعلى سبيل المثال أن يتم بث الرسائل الخاصة عن هذا اليوم و أهدافه بوسائل التواصل الاجتماعي وبالمساهمة بزرع الأشجار لمكافحة تغير المناخ ولتوفير الأمن الغذائي للجميع وبعمل الحملات الهادفة لإحداث التغيير الإيجابي سواء كان للأفراد أو المجتمع أو للبيئة ومكافحة الفقر والظلم والعنصرية والتمييز, والحث على المساواة في كل المجالات.
وبمناسبة هذا اليوم, دعت الامم المتحدة كل مواطن في العالم لتكريس رمزية 67 دقيقة من وقته للعمل في خدمة المجتمع, إحياء لذكرى السنوات ال67 التي كرسها مانديلا لمكافحة العنصرية والدفاع عن حقوق الإنسان. كما دعت كل الأفراد عبر المعمورة الى الاحتفال باليوم العالمي لنيلسون مانديلا بإحداث تغيير في مجتمعاتهم.
ومرة أخرى, وعشية احياء اليوم الدولي لنيلسون مانديلا, استذكر الأمين العام للأمم المتحدة, أنطونيو غوتيريش, خصال “ماديبا” و “الانجازات الانسانية الهائلة وغير العادية” للرجل الذي كان “عملاقا بالشجاعة والقناعة”, داعيا بالمناسبة الى “الاسترشاد بروحه الإنسانية والكرامة والعدالة والاتحاد مع النساء والفتيات والشباب وعناصر التغيير في جميع أنحاء العالم وبناء عالم أفضل”.
وقال غوتيريش : “عملاق عصرنا, نكرمه جيدا عندما نعمل. العمل, من أجل التعبير عن سم العنصرية والتمييز والكراهية, العمل لمحو تركات الاستعمار, والعمل لتعزيز المساواة وحقوق الإنسان, وقبل كل شيء العدالة”, لافتا الى أن “الفقر والجوع وعدم المساواة آخذة في الازدياد” و “البلدان تغرق في الديون”, مما يستدعي “اتخاذ إجراءات لمعالجة العنصرية والفقر وعدم المساواة لبناء عالم أفضل”.
من جانبه, لفت القائم بالأعمال لدى سفارة جنوب إفريقيا بالجزائر, سيلو باتريك رانغوميس, إلى أن إحياء “اليوم العالمي لنيلسون مانديلا”, هذا العام, يأتي تحت شعار “الأمر بين يدي”, داعيا الكل الى تقديم مساهمة في خلق حياة أفضل للمجتمعات ومختلف بلدان القارة الافريقية والعالم ومطالبا برفع مستوى الوعي وتوسيع نطاق قيم ومبادئ نيلسون مانديلا, والمضي على خطى زعيم جنوب افريقيا الاسبق القائمة على أساس التفاني في خدمة كل القضايا الانسانية.
الثورة الجزائرية مصدر إلهام لمانديلا
ويذكر أن مانديلا كانت له علاقة “قوية ومتميزة” مع الجزائر التي تأثر كثيرا بثورتها التحريرية و استلهم من كفاح شعبها لمقاومة سياسة “الابارتايد”, حسب شهادة عديد من الشخصيات والدبلوماسيين ومنهم سفير الجزائر السابق لدى جنوب افريقيا, نور الدين جودي, الذي قال ان الجزائر “لم تكن مصدر إلهام للزعيم مانديلا على الصعيد العسكري فقط, بل حتى على الصعيد الدبلوماسي, حيث استفاد كثيرا من التجربة الجزائرية في كفاحه ضد سياسة الميز العنصرية”.
وقال رئيس الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية, نور الدين جودي, إن “نيلسون مانديلا تلقى تدريبا عسكريا على يد جزائريين و أنه استلهم نضاله من نضال الثوار الجزائريين ومن الثورة المجيدة”, لافتا إلى أنه عاد إلى الكفاح ضد “الابارتايد” بجنوب افريقيا بمجرد الانتهاء من التدريب العسكري الذي تلقاه بالجزائر.
و استحضر السيد جودي في السياق شهادة مانديلا, حول الجزائر, التي قال فيها أن الثورة الجزائرية التي كان يعتبرها “النموذج الأقرب” لكفاح شعبه ضد “الابارتايد”, “صنعت مني رجلا”.
ويعد نيلسون مانديلا (1918-2013) أحد أكبر الرموز الثورية في العالم خلال القرن العشرين من خلال نضاله ضد نظام التمييز العنصري بعدما دشن في عام 1952, حملة “تحد” وهي حملة عصيان مدني كبيرة اعتراضا على القوانين الظالمة في بلاده, ما كلفه حكما بالسجن مدى الحياة.
وفي فبراير 1990, خرج مانديلا من السجن ليعود بعدها الى مواصلة نشاطه السياسي, وتولى قيادة المؤتمر الوطني الافريقي و المفاوضات التي أفضت الى وضع حد لنظام الفصل العنصري و اقامة حكومة متعددة الاعراق في جنوب افريقيا.
كرس نيلسون مانديلا 67 عاما من حياته في خدمة الإنسانية كمحام لحقوق الإنسان وسجين ضمير وصانع سلام دولي وأول رئيس منتخب ديمقراطيا لدولة جنوب افريقيا بعد فوز حزبه بأغلبية ساحقة في اول انتخابات متعددة الاعراق تنظم في البلاد.
تقاسم جائزة نوبل للسلام عام 1993 مع الرئيس الاسبق لجنوب افريقيا فريديريك دو كليرك. وقرر مانديلا في عام 1999 الانسحاب من الحياة السياسية, مواصلا في الوقت ذاته الدفاع عن الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان الى غاية وفاته عن عمر 95 عاما.