شبكة طريق الحرير الإخبارية/
بقلم: دكتورة كريمة الحفناوي
فى السابع عشر من أكتوبر عام 1987 اجتمع ما يزيد عن مائة ألف شخص تكريما لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع فى ساحة تروكاديرو بباريس التى وقِّع بها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام 1948 وأعلنوا أن الفقر يشكِّل انتهاكا لحقوق الإنسان. وفى عام 1992 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم السابع عشر من أكتوبر يوما عالميا للقضاء على الفقر.
الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو ضمان مصدر رزق مستدام حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية إضافة إلى التمييز الاجتماعى والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة فى اتخاذ القرارات.
أطلقت الأمم المتحدة فى عام 1995 مصطلح “الفقر المطلق أو المدقع” لوصف حالة الحرمان الشديد من الاحتياجات الأساسية الإنسانية من الغذاء ومياه الشرب ومرافق الصحة والإيواء والتعليم والمعلومات، وفى تعريف آخر الفقر المدقع هو العجز عن توفير متطلبات الحياة الضرورية.
وفى السنتين الأخيرتين تسببت جائحة كورونا فى فقدان الملايين عبرالعالم لوظائفهم وأشارت الإحصاءات الصادرة من الأمم المتحدة إلى أن الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية ستؤدى إلى زيادة عدد الفقراء فى العالم إلى نصف مليار شخص أى 8% من إجمالى سكان العالم عام 2030 كما تهدد تداعيات الجائحة بدفع أكثر من 70 مليون شخص إلى هوة الفقر المدقع.
عانت الصين على مدى السنين من العبودية والإقطاع واضطهاد وقهر الإمبريالية وآفة الرأسمالية البيروقراطية، وبدأت حركات للتغيير والإصلاح فى بدايات القرن الماضى ولكن لم يحالفها النجاح، وعندما تأسس الحزب الشيوعى الصينى عام 1921، أدرك مؤسسوه الأوائل بقيادة ماو تسى تونج أن الاشتراكية هى التى يمكن أن تنقذ الصين.
وعندما قامت الثورة الصينية وقامت جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وضع الحزب الشيوعى الصينى نصب عينيه تنمية البلاد ومكافحة الفقر الذي يطال الملايين من الشعب الصينى، بجانب تحسين مستوى المعيشة للشعب وذلك فى الفترة (1949 – 1978) وانتهجت القيادة الصينية سياسات اعتمدت على بناء وتحسين البنية التحتية وإصلاح الأراضى الزراعية وتطوير الخدمات من الصحة والتعليم والتأمينات الاجتماعية فانخفض عدد سكان المناطق الريفية الذين يقعون تحت الحد الأدنى لمتطلباتهم الضرورية من الغذاء والدواء والملبس بنسبة 50%.
ومع انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح فى المرحلة الثانية لمكافحة الفقر والتى بدأت منذ عام 1978 وحتى عام 2012 تم مساعدة الفقراء من خلال التنمية المستدامة وتم تنفيذ الخطة الوطنية لانتشال 70 مليون فرد من الفقر، وذلك من خلال التنمية فى المناطق الريفية والبدء بالمحافظات الأكثر فقرا والمناطق ذات الفقر المدقع للسكان الذين لايستطيعون الحصول على احتياجتهم الضرورية .
وخلال هذه الفترة انتهجت القيادة الصينية “سياسة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” والتى تعتمد على نظام اقتصادى قوامه الرئيسى الملكية العامة، بجانب مجلس الشعب، ونظام التعاون المتعدد الأحزاب، والمشاورات السياسية تحت قيادة الحزب الشيوعى الصينى.
وفى المرحلة الثالثة للقضاء على الفقر نهائيا والتى بدأت عام 2012 وحتى 2020، اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى إعمال القضاء على الفقر مهمة أساسية وهدفا لبناء مجتمع الحياة الرغيدة، حيث خاض الحزب الشيوعى الصينى والدولة معركة ضارية ضد الفقر منذ المؤتمر الوطنى الثامن عشر للحزب عاما 2012 بمساعدة أكثر من مائتين وخمسة وخمسون ألف فريق عمل متمركز فى القرى جنبا إلى جنب مع مايقرب من مليونى مسؤول فى البلدات والمدن الصغيرة وملايين من مسؤولى القرى، فتم انتشال 99 مليون فرد من سكان الريف الفقراء من الفقر المدقع فى 8 سنوات.
ويؤكد “تان وى بينج” فى مقاله بمجلة الصين اليوم عدد أكتوبر 2020 تحت عنوان “القضاء على الفقر المدقع – لماذا تستطيع الصين تحقيق ذلك”، على أن المرحلة الثالثة للقضاء على الفقر منذ عام 2012 وحتى عام 2020 اعتمدت على أربعة محاور وهى تحسين البيئة التحتية، وتحسين الخدمات العامة، والتنمية الصناعية والمستدامة، وتنمية القوة الذاتية.
ففى المحور الأول تحسين البنية التحتية: زادت الصين من الاستثمار فى الطرق وشبكات الكهرباء وإمدادات المياه والاتصال بالإنترنت مما عزز التنمية الريفية، وانتقل 9،5 ملايين فرد من سكان الريف ذوى الدخل المنخفض إلى منازل جديدة وانتقلوا إلى فوق مستوى حد الفقر من خلال عمليات إعادة التوطين.
وفى المحور الثانى تحسين الخدمات العامة: وفرت الصين البرامج الداعمة للأسر ذات الدخل المنخفض (المساعدة فى الأنشطة التجارية، والتوظيف ومعونات الإعاشة الشهرية)، وذلك بجانب توفير خدمات رعاية صحية أفضل وبأسعار معقولة، وتم إطلاق مبادرة لتحسين المهارات التعليمية والمهنية، وتحسين المستوى التعليمى للفقراء، وتقديم الدعم والمساعدة للطلاب لاستكمال التعليم الإلزامى. كما تم التخفيف من حدة الفقر من خلال التوظيف وتوفير فرص العمل.
وفى المحور الثالث التدريب والتنمية الصناعية: عملت الصين على تعزيز إنشاء المزارع ذات السمات المحلية، والسياحة البيئية، والتجارة الإلكترونية، وتشجيع استهلاك المنتجات القادمة من المناطق الفقيرة،كما وفرت فرص العمل والتوظيف.
أما بالنسبة للمحور الرابع تنمية القوة الذاتية: أطلقت الصين برنامجا لتعزيز التنمية المتوازنة بين المناطق، تم بموجبه مساعدة المناطق الساحلية فى الشرق، للمناطق الداخلية الأقل نموا فى الغرب، فى مجالات البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية والثقافة والتوظيف والصناعات، كما تم إرسال كوادر إلى القرى الفقيرة لمساعدتها فى التخلص من الفقر.
ويجدر الإشارة إلى أنه صاحبت سياسات التنمية الاقتصادية فى الصين سياسة السيطرة على النموالسكانى حيث تضاعف عدد سكان الصين خلال 30 عاما من الخمسينات حتى أواخر السبعينات فى القرن الماضى من 500 مليون إلى مليار نسمة، وبالطبع هذا النمو السكانى الضخم يؤدى إلى التهام ثمار التنمية وإلى عدم تحسين معيشة الشعب الصينى وخاصة الفقراء. لذا رافق التنمية الريفية والتصنيع والتحول الحضرى وتحسين الخدمات، تطبيق نظام صارم لسياسة تنظيم الأسرة، وتحولت سياسة تنظيم الأسرة والحد من النسل من سياسة إجبارية إلى اختيارية من أجل تحسين مستوى المعيشة.
وفى مقاله تحت عنوان ” جهود الصين لمكافحة الفقر: رؤية موضوعية” فى مجلة الصين اليوم عدد أكتوبر 2020 أشار الكاتب حسين اسماعيل إلى أنه “وفقا لإحصاءات البنك الدولى انخفض عدد سكان العالم الذين يعيشون تحت خط الفقر على مدار الأربعين سنة الماضية بأكثر من ثمانمائة وخمسين مليون فرد. والحقيقة أن الدولة صاحبة الفضل الأكبر فى تحقيق هذه النتيجة هى الصين، التى كانت أول دولة نامية تحقق الهدف الإنمائى للألفية للأمم المتحدة للحد من الفقر، مسيرة الصين فى مكافحة الفقر قصة نجاح ملهمة وتجربة جديرة بأن تتعلم منها دول كثيرة”.
ويضيف الكاتب حسين اسماعيل فى مقاله “فى زيارتى للصين فى بداية تسعينيات القرن الماضى كنت وجها لوجه مع الفقر فى مقاطعات بجنوب غربى الصين يسكنها كثير من أبناء الأقليات القومية، حيث الناس يصارعون الفقر وكانوا معزولين فلا طرق تربطهم بالعالم من حولهم ولا كهرباء ولا هاتف، ناهيك عن التليفزيون والمذياع، الأرض القاحلة والظروف الطبيعية القاسية، فرضت الفقر والجوع والتخلف. وفى سنة 1996 أقيمت علاقات تنسيق وتعاون بين مناطق شرقى الصين المتقدمة ومناطق غربى البلاد المتخلفة آنذاك، بجانب إعادة توطين سكان المناطق الفقيرة ذات الظروف الصعبة، مما أدى إلى تنمية فى الصناعة والزراعة مع شق الطرق والإنارة وإنشاء المدارس والمكتبات والمتنزهات”.
قدمت الصين عبر عدة عقود تجربة ملهمة فى القضاء على الفقر، وقدمت يد العون للدول النامية ذات الدخل المنخفض، وانتهجت سياسة التعاون والمصير المشترك مع كافة دول العالم دون التدخل فى سيادة الدول، وقدمت أكثر من مبادرة من خلال الأمم المتحدة، من أجل القضاء على الفقر، ومن أجل مكافحة ومواجهة تفشى فيروس كوفيد 19 وتداعياته الاقتصادية، ومن أجل انتهاج مبدأ حل الأزمات بالطرق السلمية، وانهاء الصراعات والحروب لاستقرار العالم واستتباب الأمن والسلم العالميين، وشاركت فى مبادرة حل المشكلات الناجمة عن التغيرات المناخية والبيئية للوصول إلى تقليل الانبعاثات الكربونية إلى الصفر عام 2050.
ستظل تجربة جمهورية الصين الشعبية فى القضاء على الفقر ملهمة لكافة البلدان النامية ومنها مصر، حيث أنتجت السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية لتلك الدول (والتى تتبع سياسات تعتمد على القروض من صندوق النقد الدولى وعلى الاقتصاد الريعى على حساب الاقتصاد الإنتاجى) مزيداً من التفاوت الطبقى الشديد مع غلاء الأسعار والتضخم، وزيادة البطالة، وزيادة نسبة الفقر، وتردى الخدمات الصحية والتعليمية والاعتماد على الاستيراد لتوفير الغذاء والدواء والسلع الضرورية للشعوب.
لقد بدأت الدول النامية تنتبه لأهمية الحماية الاجتماعية للشرائح التى تعانى من الفقر، والفقر المدقع وذلك بتنمية القرى والمدن الفقيرة والاهتمام بالمشروعات الصغيرة، وتوفير فرص العمل، وتحسين خدمات الصحة والتعليم والسكن وإتاحة الثقافة والعرفة والمعلومات لكل المواطنين والقضاء على الأمية. كما انتبهت بعد جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد الحرب الروسية الأكرنية، إلى أهمية الإنتاج الزراعى للاكتفاء الذاتى من الغذاء، وأهمية الإنتاج الصناعى.
ولقد بدأت مصر منذ بضعة سنوات فى تنفيذ بعض برامج الحماية الاجتماعية مثل برنامج “تكافل وكرامة” الذى يقدم مساعدات مالية للأسر الفقيرة، ولكنها مازالت تغطى عددا محدودا من الأسر الفقيرة، وبدأت فى أغسطس من العام الماضى 2021 إطلاق وتنفيذ مبادرة “حياة كريمة” تقوم على تنمية القرى المصرية الأكثر فقرا وذلك بالتعاون بين مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدنى من جمعيات أهلية وهيئات خدمية وتنموية، وكانت البداية فى صعيد مصر حيث القرى الأكثر فقرا، ويعتمد المشروع على تحسين البنية التحتية، وتقديم الخدمات التى تنقص تلك الأماكن من صحة وتعليم وسكن ومياة نظيفة وصرف صحى وطرق ووسائل انتقال، وعمل مشروعات إنتاجية تتناسب مع موارد كل محافظة وقرية ومدينة، بجانب التدريب على الحرف، وذلك مع مبادرة ثقافية تقوم على التوعية ونشر الفنون والثقافة والتدريب على الحرف التراثية. وبالطبع أمامنا الكثير لتنفيذ هذه المشروعات ولابد من متابعة تنفيذها ومراقبتها ومحاسبة المسئولين عنها ووضع خطة زمنية، حتى تتم على أكمل وجه بكل شفافية ونزاهة دون محسوبية وبيروقراطية ودون إهدار للمال العام، ولكى تحقق أهدافها وتصل إلى كل الأماكن والأسر الأكثر احتياجا.
نأمل فى أن تستفيد كافة الدول من تجارب وخبرات الصين الملهمة فى القضاء على الفقر، ونتمنى فى المرحلة القادمة مزيداً من التعاون بين مصر والصين من أجل الرخاء والتنمية والتقدم لشعوب البلدين.