بقلم: دكتور محمد أحمد مرسي*
*أستاذ العلاقات الدولية
أصبحت أكبر صفقة تجارية في العالم حقيقة ملموسة بعد أن وقع زعماء آسيا في هانوي في نوفمبر الماضي على أكبر معاهدة تضم الدول العشرة الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا.
يصل عدد سكان هذه الدول الأعضاء إلى ما يقرب من ثلث سكان العالم ويصل انتاجها إلى حوالي 29٪ من الناتج الإجمالي لكوكب الأرض. وعلى هذا فإن الاتفاقية، التي تحمل اسم RCEP (الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة)، ستكون أكبر من اتفاقية T-MEC أو USMCA (الولايات المتحدة والمكسيك وكندا).
إن توقيع اتفاقية التجارة الحرة للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة خلال قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الأخيرة في هانوي، بعد 8 سنوات من المفاوضات السابقة وبمشاركة 15 دولة، هو بلا شك تقدم كبير للدبلوماسية الصينية وسيكون له تأثير كبير على علاقاتها مع بلدان آسيا والمحيط الهادئ. وعلاوة على ذلك، وبعد فترة وجيزة من التحول المعقد الذي أنتجته الانتخابات في الولايات المتحدة وهو ما شكك في الاستراتيجية “الحرة والمنفتحة والديمقراطية” التي روجت لها الولايات المتحدة الأمريكية لاحتواء نفوذ بكين في المحيط الهادئ وعلى المستوى الإقليمي في آسيا قد فقد تأثيره من خلال ظهور لصين قوية وقادرة على التعاون الإقليمي الفعال والمستقر.
لقد روجت الصين في البداية لبرنامج الشراكة الإقليمية لآسيا والمحيط الهادئ استجابة لمعاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ التي قامت إدارة أوباما بطرحها في سياستها الخارجية في إطار ما يسمى بـ “محور آسيا”. ومع ذلك، كان انسحب دونالد ترامب من معاهدة التكامل الاقتصادي متعددة الأطراف في المنطقة وهي الأكثر ديناميكية في القرن الحادي والعشرين في آسيا والمحيط الهادئ والتي تضم 11 دولة وهدفها هو المساهمة في النمو الاقتصادي وخلق فرص جديدة للشركات ينعكس بشكل مباشر على العمال والمزارعين والمستهلكين غير كاف له للتركيز على ما بدأته إدارة أوباما من تفعيل البعد التجاري والمالي لتعزيز شراكاتها في آسيا والمحيط الهادئ لاحتواء الصين، فاختار هو استراتيجية تركز على القضايا الأمنية حول ما يسمى “الرباعية” بالشراكة مع الهند واليابان وأستراليا.
ومن المفارقات أن اليابان وأستراليا الموقعتان على اتفاقية الشراكة الإقليمية وبعتبرهما أعضاء منذ عام 2018 في معاهدة الشراكة الشاملة عبر المحيط الهادئ (CPTPP – TPP11) التي استبعدت منها الولايات المتحدة نفسها قد قاما بدور بارز في التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة هذه. لقد قامت اليابان ـ التي شعرت بالقلق إزاء تحركات الصين المتنامية ـ بمجهودات واضحة لإنجاح هذه الاتفاقية الهامة للتجارة الحرة، وكانت أيضاً، منذ عام 2007، من بين الدعاة الأقوياء لاستراتيجية التعاون بين منطقة المحيط الهادئ – الهندي وهي عضو في “الرباعية” وشاركت مؤخرا مع البلدان الثلاثة الأخرى في مناورات عسكرية بحرية مشتركة، ولكنها في نهاية الأمر اختارت استراتيجية المحيط الهادئ الهندي بديلًا عن الصراع والأجواء المتوترة كإطار للتعاون ، وفي هذا الإطار، لم تحقق بكين انتصارًا مهمًا فحسب من خلال توقيعها اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) والدور القيادي الذي لعبته في القمم الأخيرة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) والتعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) بل أعلنت أيضًا عن استعدادها للقيام بالمشاركة في معاهدة التكامل الاقتصادي متعددة الأطراف، وتؤكد من جديد على أهمية آسيا والمحيط الهادئ كتوافق إقليمي واختيار استراتيجي لسياستها الخارجية.
خطأ ترامب في المراهنة على استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ القائمة في المقام الأول على اعتبارات أمنية، مع تمسك شركائه في المنطقة على إنشاء معاهدة التكامل الاقتصادي المتعددة الأطراف وهو ما سوف يجبر الرئيس بايدن المنتخب حديثًا على إعادة صياغة استراتيجيته في آسيا والمحيط الهادئ واستعادة، ربما بشكل أكثر تكاملًا بعض العناصر التي ميزت سياسة أوباما في التوجه نحو “محور آسيا” بما في ذلك إمكانية إعادة النظر في ارتباط الولايات المتحدة باتفاق التجارة الحرة هذا والأساليب الحالية لتنفيذ استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ.
ولكن من المرجح أيضا أن تؤثر الحالة الجديدة على وضع بلدان أمريكا اللاتينية التي ترتبط اقتصاداتها بشكل متزايد بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. ليس فقط دول أمريكا الجنوبية بشكل عام، ولكن بشكل خاص، الأعضاء الحاليين في تحالف المحيط الهادئ الذين شاركوا في معاهدة التكامل الاقتصادي المتعددة الأطراف مثل بيرو أو تشيلي التي لا تزال تناقش إمكانية المشاركة فيها، في حين أن المكسيك – تدرك دائماً أهمية علاقتها مع الولايات المتحدة لذلك نجد أن علاقاتها غير المتزنة مع المجال الآسيوي وكذلك الحكومة الكولومبية الحالية من ناحية أخرى نجدها تضع تركيزها مرة أخرى نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ بعد هزيمة ترامب في الانتخابات الأخيرة وشعورها بإمكانية التقارب مع الدائرة الأسيوية في ظل إدارة بايدن الجديدة وستكشف لنا الأيام عن مدى صحة التوقعات التي تدعم إمكانيات التقارب الهادي – الهندي.