*صحيفة السوداني
تقرير: محمد عبدالعزيز
سقطت إيطاليا بسرعة في ظلال شبح فيروس كورونا وتحطمت البنية التحتية الطبية وارتفع عدد القتلى بشكل كبير، لتسجل نهاية الأسبوع الماضي أعلى عدد من الوفيات في اليوم الواحد حيث توفي أكثر 475 شخصاً، بينما يرقد أكثر من ألفي شخص في المستشفيات والعناية المركزة، مما جعل الأطقم الطبية تقضي أوقاتاً عصيبة في ظل نقص أسرة وحدات العناية المركزة أو أجهزة التنفس الصناعي لكل مريض، مما يضطر الأطباء إلى اختيار المرضى الذين يستحقون إعطاءهم الأولوية، باتباع الإرشادات والتوجيهات الخاصة بمتوسط العمر المتوقع ممن لديهم فرصة البقاء على قيد الحياة، مقابل الذين لا يمكنهم الحصول على سرير (كبار السن)، وعلى الأرجح لن يستطيعوا البقاء على قيد الحياة، وهي إجراءات قاسية ولا مفر منها في حالة الطوارئ.
سر السقوط
تحول فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى جائحة عالمية بسبب سرعة انتشاره وتمدده على نطاق جغرافي واسع، إذ تجاوز عدد المصابين حول العالم 260 ألف فيما بلغت الوفيات أكثر من 11 ألف، مع حالة من اللايقين في فهم سر انتشاره السريع وإيجاد علاج فعال وتحديد إطار زمني للقضاء عليه.
في الأسابيع القليلة الماضية، أصبحت إيطاليا حالة
تُدرّس في سوء إدارة الأزمات، باعتبارها حالة طوارئ طبية كبيرة الحجم، واجهت بيئة
سياسية غير مستقرة، وانكار مجتمعي.
لقد تلقت السلطات الإيطالية تقارير أمنية تحذر
الحكومة من كورونا بعد أيام فقط من تسلله إلى الصين فى أواخر العام الماضي، ولكن
مرت أسابيع قبل اتخاذ أي إجراء جدي في روما وبعد ذلك، كان قد فات الأوان قليلاً،
وقد قيل للجميع :”إنها مشكلة الصين ولن تأتي إلى هنا”.
بحسب تقارير صحفية أدت الخلافات بين القوى السياسية، والعلماء الباحثين عن الشهرة والإنكار الاجتماعي وجهود الاحتواء المتأخرة لتحول إيطاليا بإمكاناتها الاقتصادية ونظام الرعاية الصحي المتطور مقارنة بدول العالم الثالث، لبؤرة لجائحة فيروس كورونا لتسجل ثاني أكبر معدل إصابة في العالم بعد الصين، بعد أن سجلت حتى ظهيرة الجمعة أكثر من 47 ألف حالة، وبلغت الوفيات أكثر من 4 آلاف حالة متجاوزة الصين -40% من حالات الوفاة المسجلة في العالم بسبب الفيروس-.
رئيس الفريق الطبي الصيني في إيطاليا صن سو بينغ
قال بعد أسبوع من وصوله إنه مصدوم من مدى التهاون في إجراءات الحد من انتشار
الفيروس في إيطاليا وعدم التزام الناس بالتعليمات.
ومع ذلك، يبدو أن الترابط العائلي قد أدى إلى تفاقم
تفشي الفيروس بينما معدلات الأعمار العالية تفسر أسباب الوفيات المرتفعة- 23.3 %
من الإيطاليين فوق سن 65-، ويرى خبراء أن مشكلة انتشار الفيروس في إيطاليا بسبب
حقيقة أن لديها معدلاً مرتفعاً جداً من كبار السن، وعدداً منخفضاً من أسرة
مستشفيات العناية المركزة ــ أقل من 5,000 سرير مقابل نحو 25,000 سرير في ألمانيا
المجاورة ــ بالإضافة إلى نهج إدارة الأزمات.
الاستهانة بالخطر
أول خطوة خاطئة اتخذتها الحكومة الإيطالية كانت الاستهانة بالخطر، عندما طالب الكثيرون في شهر يناير باتخاذ إجراءات صارمة لفرض حجر على كل مسافر قادم من الصين. إن اتخاذ قرارات صعبة في لحظات الشك أمر صعب، ولكن السياسة كانت هي السبب الفعلي لعدم أخذ هذه المناشدات بعين الاعتبار، باعتبارها تخدم أجندة العصبة الشعبوية للدفع بسياسة مناهضة للهجرة وخطاب كراهية الأجانب.
ذات الانقسام انعكس على الحقل العلمي والطبي حيث انتشر الجدل على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، وقدموا في بعض الأحيان معلومات متناقضة حول خطر الفيروس والتدابير الصحيحة اللازمة لاحتوائه، ووصل الأمر بعالمة فيروسات أن وصفت كورونا بأنها «فقط أكثر خطورة بقليل من الأنفلونزا». وبسبب ذلك تعرضت لتوبيخ شديد من عدد من أقرانها، ولكن لعدة أيام تناقلت كلماتها مواقع الإنترنت، مما أعطى إحساسًا بالشرعية لأولئك الذين تجاهلوا التهديد الذي يشكله الفيروس.
تم إعلان اكتشاف أول حالة إصابة بالفيروس في إيطاليا 18 فبراير الماضي، الأسابيع التي تلت ذلك كانت متعثرة بسبب السياسة الداخلية والجدل حول ما إذا كانت المخاوف مبالغ فيها، والتداعيات الاقتصادية الخطيرة التي من شأنها أن تكبح التدابير الأكثر صرامة.
لقد كانت إيطاليا في حالة إنكار ولم تتحرك بالسرعة الكافية للانخراط في تدابير الفصل الاجتماعي والحظر. وهذه هي نفس المشكلة التي يشهدها الآن السودان. لكن القنبلة الفيروسية انفجرت بكامل قوتها، وسرعان ما وصل نظام الرعاية الصحية إلى نقطة حرجة.
لدى الحكومة الإيطالية خطة لزيادة أسرّة العناية المركزة بنسبة 50%، لكن هذا الأمر يتطلب وقتًا. كما خصصت الحكومة حوالي 8.6 مليار دولار لدعم الأسر والشركات التي تضررت بشدة من الوباء، وهو الأمر الذي سيكون له تأثير ساحق على أبطأ الاقتصاديات نموًا في الاتحاد الأوروبي.
تأثيرات أكبر
جميع الحكومات في العالم ستعاني جراء كورونا، إلا أن البعض سيعاني أكثر من الآخرين، من الناحية الاقتصادية يبدو تأثير كورونا سيكون أسوأ من الحرب، وقلة من القادة السياسيين اليوم قد واجهوا ظروفاً مماثلة مثل الوباء وتداعياته الاقتصادية – على الرغم من أن البعض يستحضر الأزمة المالية في العام 2007-2009، وفي الوقت الذي أدركوا فيه متأخراً أن الأنظمة الصحية سوف تنحسر وتزداد الوفيات، فإن القادة أصبحوا في النهاية يتقبلون حقيقة أنه سيتعين عليهم تجاوز العاصفة، إلا أن هنالك ثلاثة عوامل ستحدد كيفية مواجهتها، بما في ذلك موقفهم من اللا يقين بالنسبة لطبيعة الفيروس؛ وهيكل وكفاءة الأنظمة الصحية؛ مدى الثقة في القادة لاتخاذ قرارات صعبة بشأن الحجر الصحي والعزل الاجتماعي.
كان الحل الصيني، الذي أيدته منظمة الصحة العالمية، هو فرض حجر صحي قاسٍ، مدعوم باختبار شامل وتتبع الاتصال. جاء ذلك بتكلفة بشرية واقتصادية عالية، لكن الإصابات الجديدة تضاءلت. فيما زار الرئيس شي جين بينغ ووهان هذا الأسبوع، حيث ظهر الوباء لأول مرة، ومع ذلك، يستمر عدم اليقين حتى في الصين، لأنه لا أحد يعرف ما إذا كانت الموجة الثانية من الإصابات سترتفع مع تراجع الحجر الصحي.
ويتساءل البعض بشأن نجاح السياسة التي اتبعتها الصين، وهل يتحمل الناس نظام العزل والمراقبة القاسي الذي استخدم في الصين. إن القيود في إيطاليا خضعت لضبط ذاتي إلى حد كبير ولا تنتهك حقوق الناس بشدة. ولكن ثبت أنها أكثر تكلفة وأقل فعالية، مما جعلهم الأسبوع الماضي يلجأون للنموذج الصيني حيث وضعت الحكومة منطقة لومباردي بأكملها و14 مقاطعة أخرى في شمال البلاد في حالة إغلاق، مما أدى فعليًا إلى عزل حوالي 16 مليون شخص حتى الثالث من شهر إبريل على الأقل، في منطقة تعتبر بمثابة مركز الثقل الاقتصادي المؤثر للبلاد؛ وسوف تُغلق المدارس والجامعات حتى أوائل شهر إبريل، وستُلغى جميع المناسبات العامة، الإجراءات الأخيرة كانت كانت أكثر القيود التي اتخذتها دولة خارج الصين صرامة.
قال وزير الصحة الإيطالي روبرتو سبيرانزا: «يجب أن نضرب بقوة على يد الأشخاص غير المسؤولين، فالفيروس ليس مزحة»، في إشارة إلى الحالات العديدة التي شهدت تجاهل التدابير السابقة الخاصة بتطبيق التباعد الاجتماعي للحد من العدوى. وأظهرت التقارير الواردة عن ازدحام الحانات، أو التزلج في منتجعات مزدحمة في جبال الألب، أو التدافع على الشواطئ في العديد من المدن الساحلية، أن الإجراءات المعتدلة لن تنجح (في كبح انتشار الفيروس).
كما أساءت الحكومة الإيطالية أيضًا التعامل مع استراتيجية الإعلام الخاصة بها، إذ سربت مسودة مبكرة إلى الصحافة، بينما كانت الحكومة لا تزال تناقشها. وأدت التقارير غير المؤكدة عن عمليات الإغلاق إلى تفاقم حالة الهلع القائمة بالفعل. وتدافع كثير من الناس لمغادرة «المنطقة الحمراء»، إما بالقطار أو السيارة، قبل أن تعلن الحكومة المرسوم رسميًا.
حالة السودان
أثبت الدرس الإيطالي أن الحكومات تحتاج إلى توقع الوباء، لأن إجراءات إبطاء انتشاره، مثل حظر الزحام، تكون أكثر فعالية إذا كانت مبكرة.
تعاملت السلطات السودانية بحذر مع ظهور كورونا، وإن كان تركيزها منصباً في البدء في إجلاء مواطنيها من مدينة ووهان حيث ظهر الفيروس، مع إجراءات الفحص الحراري عبر المطارات والمعابر،
إلا أنه في الثاني عشر من مارس شعرت بقدوم الفيروس إلى أراضيها مع إعلان دول المنطقة عن حالات مكتشفة، فقررت تعليق الطيران مع 8 دول وإغلاق المعابر البرية مع مصر في إطار ترتيبات احترازية.
ووجه القرار الجهات المختصة بتوفير معسكرات وعنابر إيواء تحسباً لانتشار المرض كما دعا القرار المواطنين لتفادي التجمعات الكبيرة.
في اليوم التالي أعلنت وزارة الصحة السودانية وفاة مواطن بالفيروس ليتم السبت إعلان حالة الطوارئ وتعليق الدراسة بجميع المراحل التعليمية لمدة شهر فيما تقرر تقصير أوقات الصلوات في دور العبادة مع دعوات لتجنب الزحام وتجهيز مراكز للعزل وإنشاء نقاط صحية على المعابر الحدودية.
السلطات الصحية في السودان بإعلان الطوارئ من الحالة الأولى التي وصلت من الخارج سعت لحشد كل الموارد لمقاومة الفيروس ومحاولة استباقه بخطوة أو اثنتين، ترتيبات السودان بالرغم من إمكاناته بدت متقدمة فعلى سبيل المثال لم تعلن المغرب حالة الطوارئ إلا بعد إثبات الحالة الثالثة.
في المقابل كانت هناك حالة من التشكيك صاحبت إعلان الحالة وسط استقطاب سياسي واجتماعي في الاعتراف بها والالتزام بالتحوطات اللازمة، كان الأمر أشبه بما حدث في إيطاليا خاصة فيما يلي انقسام النخبة السياسية والطبية ليصل للمجتمع الذي لا يختلف كثيراً عن الإيطالي في حميميته وتوادده، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد سكان السودان يساوي نصف إيطاليا مع اختلاف التركيبة الديموغرافية حيث تقل نسبة كبار السن مقارنة بإيطاليا.
أما على المستوى الإعلامي ومواقع السوشيال ميديا فقد حدث انقسام بين من يسعى للتهوين ونسف ادعاءات الحكومة وإجراءاتها ومهاجمة الحكومة ووزير الصحة بشكل شخصي والتشكيك في كفاءته، وبين من سعى للتهويل والبحث عن زيادة للحالات المكتشفة بحثاً عن سبق صحفي.
أما فيما يلي النظام الاقتصادي السوداني، فهو يعاني من اختلالات هيكلية وتوقع صندوق النقد الدولي بالفعل ركودًا اقتصاديًا عامًا في عام 2020. على سبيل المثال ، من المتوقع أن ينخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5 ٪ ، بالإضافة إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي المتدهورة الأخرى، وموازنة متعثرة بسبب تأجيل إجازة خطة وزير المالية في إعادة هيكلة الدعم لحين عقد مؤتمر اقتصادي نهاية مارس الجاري تم تأجيله لوقت لاحق بسبب كورونا.
مواجهة كبيرة مثل كورونا تستدعي تضافر كل الجهود
الرسمية والشعبية لمواجهة هذه الجائحة وهو أمر حدث في دول كبرى على رأسها الولايات
المتحدة والصين.
في سياق آخر يبدو أن نظام الرعاية الصحية في
السودان متهالك، صحيح أن الحكومة الانتقالية رفعت في الموازنة الجديدة نسبة
الإنفاق على الصحة من 16.106 مليون جنيه أي ما يعادل 4% من الإنفاق العام إلى
51.390 مليون جنيه أي ما يعادل 7% من الإنفاق العام، وهو ما لا يؤهله لخوض أي
مواجهة مع وبائيات ناهيك عن جائحة كورونا، ويتوفر للسودان نحو 2500 سرير بالعناية
المركزية، و116 للعزل الصحي.
عضو غرفة الطوارئ المركزية بوزارة الصحة د.محمد نقد الله يشير إلى أنهم ورثوا نظاماً صحياً متهالكاً في السودان لم يكن يوفر سريراً واحداً للعزل الصحي بفعل سياسات النظام السابق إلا أنهم نجحوا حالياً في توفير 116 سريراً ويشير نقد الله إلى أن تكلفة السرير قد تتراوح بين 50-100 ألف دولار فيما تم تجهيز مركزين للحجر الصحي وتجري الترتيبات لتوفير مركز إضافي، مشيراً إلى استجابة أكثر من 500 طبيب عمومي وامتياز وعدد مقدر من الاختصاصيين والكوادر الصحية المختلفة لنداء وزارة الصحة، و سيتم توزيعهم في مستشفيات الولاية لتقديم الخدمة الصحية والتعامل التقني مع حالات الاشتباه في كورونا.
حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي تطل برأسها
مجدداً أمس بعد تجاوز جدل الحالة الأولى وحجر أفراد أسرته بعد سعى البعض لعرقلة
محاولة الحكومة لإقامة مراكز عزل في أحيائهم مخافة نقل العدوى، بينما تقول وزارة
الصحة إنه لا يستقيم أن تبذل كل ما بوسعها لحماية المواطنين وتقوم بنقل المرض
لبعضهم، مؤكدة ان مراكز العزل مصممة لحماية المواطنين لا لنقل العدوى لهم.
نهاية الأسبوع الماضي نظر الإيطاليون من النوافذ
والشرفات، إلى مشهد بائس ومهيب، رأوا فيه شاحنات للجيش الإيطالي، وهي تنقل عشرات
من جثث ضحايا فيروس كورونا لحرقها، بينما لا يزال السودانيون يمارسون حياتهم
العادية ويتجادلون حول قدرة أجسامهم المناعية على مواجهة الفيروس.
*صحفي من السودان ومتخصص بالشؤون الصينية وعضو في الاتحاد الدولي للصحافيين والإعلاميين والكتاب العرب أصدقاء وحلفاء الصين، وحاصل على زمالة المركز الصيني الافريقي للاعلام، وزمالة (الصينلوجست) الشباب.