شبكة طريق الحرير الإخبارية/
“الناتو” يتحول إلى العسكرة القارية
بقلم: يلينا نيدوغينا*
منذ عشرات السنين لم تشهد البشرية حَمَأةً واحتداداً في العلاقات الدولية بين عددٍ من دول الغرب والشرق كما هي عليه هذه الأيام، التي تحتشد فيها شتى أنواع الأسلحة الضاربة والجيوش المجهزة بأحدث آلات الدمار، القادرة على جعل العدو يتبخر في الهواء بثوانٍ قليلة، ويفقد وجوده المادي مرة وإلى الأبد، وسحق الحياة البشرية على سطح البسيطة إلى غير رجعة لها.
إن نوايا حلف “الناتو” للتوسع في شرق أوروبا والقسم الأوروبي الكبير من روسيا، وسعيه لبسط سيطرته عليها بالكامل، ضمنها الأراضي البيلوروسية، وتخندق جنده على الحدود الدولية الروسية في الجبهة رقم 1، وعلى الجبهة رقم 2 (فنلندا و السويد) للنيل من شمال غرب روسيا وسانت بطرسبورغ (لينينغراد سابقاً)، وتكديس قوات هذا الغرب بمواجهة الجيوش الروسية كما لم يحدث من قبل، يكشف بجلاء عن نيته لتقديم قرابين مليونية لجهنم من قوميات مختلفة، عدا الأمريكية، لإشغال وإضعاف روسيا بأيدي غير أمريكية، وهذا في الواقع محاولة لإشغال موسكو وللضغط على الاقتصاد الروسي والجبهة الداخلية الروسية، وبموازاة هذه كلها إشعال جبهة رقم 3 على الحدود الروسية مع دول البلطيق الصغيرة الثلاث الملتحفة بالغرب السياسي، أضف إليها جبهة اليابان رقم 4 الواقعة في أقصى الشرق الآسيوي، إذ تتهيأ طوكيو اليوم لفتح أراضيها علانيّة أمام الجيوش الناتوية في تحدٍ سافر لروسيا والصين، والهدف الياباني يتطلع بنهم إلى احتلال مجموعة “جُزر الكوريل” الاستراتيجية، في محاولة للسيطرة على الموانئ الروسية في الشرق الأقصى الروسي، وتهديد جمهورية الصين الشعبية ومحاربة اقتصادها وطُرق مواصلاتها الدولية، واحتواء جزيرة تايوان، ومنع أيَّ محاولات من شعبها للتوحّد مع الصين الأم.
في البدايات، كان الهدف من تأسيس حلف الناتو هو الإدعاء بمَا يُسمَّى ضمان “الأمن الجماعي” لأجزاءٍ من قارة أمريكا الشمالية وأوروبا. فمنذ الحرب الباردة إلى الحقبة التي تلتها، ظل الناتو على شاكلة معاهدة تحالف عسكري إقليمي. وعلى الرغم من الجولات المتعددة شرقاً، ظلت تغطيته العسكرية الوظيفية دائماً في أوروبا. ومع ذلك، فقد استغل الناتو في الحقبة الأخيرة المواجهات بين روسيا وأوكرانيا لتوسيع تحوله الاستراتيجي الجديد: من منظمة معاهدة تحالف عسكري إقليمي في نصف الكرة الغربي، إلى تحالف عسكري عالمي يغطي المحيط الأطلسي والهندي والمحيط الهادئ.
قرأت مؤخراً مقالة للباحث العرمرم في معهد الصين للدراسات الدولية، يانغ شي يو، الذي كشف عن أن وزير الخارجية البريطاني تروس، قد طالبَ علناً “بإنشاء” (حلف شمال الأطلسي العالمي)، وشرع يُروّج إلى استعداد الناتو لطرح ما يدّعيه بِ “الرؤية الإستراتيجية 2022″ في حزيران المقبل، خلال قمّة مدريد. وهي انعكاسات نموذجية لعولمة الوظائف العسكرية لحلف الناتو.
يرى هذا الباحث الصيني الشهير، أن هذا الاتجاه الاستراتيجي الجديد لا يمثِّل توجّها أمريكياً فقط، بل يُعَبِّر عن دوافع ذاتية متأصلة أيضاً لدى بعض الأعضاء الأوروبيين. بالإضافة إلى ذلك، توجد عدة أسباب موضوعية تتعلق بتغيّرات الوضع العالمي. ربما منها – بعد عقود خلت من عَمَلانيَّات العولمة والتكامل الاقتصادي الإقليمي – إحالة عالم اليوم إلى “مُلَحق” بركاب الغرب، إذ تشكّل من ثلاثة تكتّلات اقتصادية تمثل 78٪ من الاقتصاد العالمي، وهي: سوق منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، وسوق الاتحاد الأوروبي ، وسوق شرق آسيا المكوَّن من رابطة أًمم جنوب شرق آسيا زائد الصين واليابان وكوريا الجنوبية “10 + 3”.
من المهام المنوطة بالناتو راهناً، برغم عدم وجود حرب باردة كما كان الأمر عليه بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية – “تحويل التركيز الاستراتيجي نحو الشرق” عموماً، ونحو شرق أوروبا خصوصاً، واحتواء روسيا الأوروآسيوية أولاً، والصين ثانياً، وتكريس هذا التمركز ومعه منطقة آسيا والمحيط الهادئ عسكرياً لصالح واشنطن، يتبعه جرّ حلفاء الناتو الأوروبيين برمتهم إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ للمشاركة هناك برجالهم للموت في سبيل العم سام ورغباته ومصالحه في حروب “العمليات الحارة”! لكن، وبرغم هذا كله، لن يتمكن “سام” من البروز في مكانة الزعيم المُهيمن على المركز الأول العالمي الجيوإستراتيجي، ذلك أن أكثرية دول أوروبا التي تلتحق الأن بركب الناتو لا تملك القوات والقوى الكافية في مجالات عدة لهذه النقلة النوعية، إلا أن واشنطن تضغط في الإتجاه المناسب لها بغض النظر عن تأثيرات هذا السلبية على حلفائها، تطلعاً منها لتكريس مكانتها القيادية الأولى على العالم والقوى الغربية وملحقاتها من الدويلات الصغيرة والوسطى وغيرها.
في حقيقة الأهداف / الخطوة المقبلة للناتو، فيما لو نجح في تحويل تركيزه الاستراتيجي من أوروبا إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تهديد الصين عَلناً بغية تحجيمها اقتصادياً، وتقليص علاقاتها الدولية، وهذا بحد ذاته سيُهدِّد بلداناً كثيرة من جملة حُلفاء الصين التي لن تصمت على مثل هذا التحوّل الذي يتربص بها، سيّما وأن واشنطن تسعى لإغلاق الممرات المائية أمام الصين في المنطقة الآسيوية إذ إن بكين هي المحور الاقتصادي والسياسي المعاصر، بخاصة بوصول إجمالي الناتج المحلي لكتلة شرق آسيا إلى30.9 تريليون دولار أمريكي في العام المنصرم 2021، علماً أنه وفي نفس هذا العام، وصل إجمالي الناتج المحلي لكتلة أمريكا الشمالية إلى 26.24 تريليون دولار أمريكي فقط؛ بينما بلغ الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي 17.08 تريليون دولار أمريكي لا غير، وهو ما يُثبت أن منطقة شرق آسيا تنمو بوتائر متسارعة، فهي الإقليم الذي يتمتع بأكبر إمكانات تنموية وأفضل احتمالات للنمو بين الكتل الأكبر دنيوياً، حيث صارت منطقة شرق آسيا نقطة جذب للسياسات الدولية والتفعيلات الاقتصادية.
في هذا الصدد، تقول صحيفة الشعب الصينية اليومية: يُعد تطور حلف الناتو في حد ذاته “فخاً أمنياً”، حيث أن الهدف الاستراتيجي له المتمثل في “الأمن الجماعي” هو في الواقع تقسيم العديد من البلدان في القارة الأوروبية إلى فئتين من الأمن: “البلدان التي تتمتع بالأمن الجماعي”، و”دول الأمن غير الجماعي”. ولهذا، وفي وقت مبكر من بداية الحرب الباردة، كشف المؤرخ البريطاني هربرت باترفيلد بعمق عن هذا النوع من المواقف التي يستحث فيها أحد الأطراف استجابة مماثلة من الجانب الآخر من أجل تعزيز أمنه، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى كلتي المشكلتين. حيث يتولّد عن ذلك المعضلة الأمنية المتمثلة في انعدام الأمن عند جميع الأطراف، تماماً كما يحدث الأن في أوروبا التي تتربص بها كارثة أمنية وتراجع في التقدم الاقتصادي، ما يُفضي نحو منحدر حاد بعيداً عن التنمية السلمية المُستدامة.
*كاتبة وإعلامية روسية / أردنية.