قال خبيران صينيان إن الصين تدعم دول الشرق الأوسط في التمسك بالاستقلالية الإستراتيجية وتعمل على الارتقاء بعلاقات الشراكة الإستراتيجية بين الصين والدول العربية، مؤكدين أن العلاقات بين الجانبين تدخل عصرا جديدا من التنمية الشاملة والمعمقة.
وجاء كلام الخبيرين تعليقا على التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الصيني تشين قانغ خلال مؤتمر صحفي عُقد يوم الثلاثاء الماضي على هامش الدورة الأولى للمجلس الوطني الـ14 لنواب الشعب الصيني.
وفيما يتعلق بمحور تركيز سياسة الصين المستقبلية تجاه الشرق الأوسط، ذكر وزير الخارجية الصيني أن الصين ودول الشرق الأوسط تتمتع بتاريخ طويل من الصداقة والشراكة، مضيفا أنه في القمة الصينية-العربية الأولى التي عُقدت نهاية العام الماضي، اتفقت الصين والدول العربية على بذل جهود شاملة لبناء مجتمع صيني-عربي ذي مستقبل مشترك في العصر الجديد، ما دفع التعاون الودي بين الصين والدول العربي قدما.
— الصين لن تسعى لملء ما يسمى بـ”الفراغ” في الشرق الأوسط
في وقت سابق، مع تعزيز أواصر التعاون بين الصين والدول العربية، واصل الرأي العام الغربي الترويج لرواية حول الصين بشأن ما يسمى بـ”ملء الفراغ في الشرق الأوسط”. وقد ذكر تقرير عن التعاون الصيني العربي في العصر الجديد صدر عن وزارة الخارجية الصينية في الأول من ديسمبر من العام الماضي أن الصين تدعم بقوة الاستقلالية الإستراتيجية للدول العربية ووحدتها واعتمادها على الذات. وترى الصين دائما أنه لا يوجد فراغ في الشرق الأوسط، ولا تسعى أبدا إلى تحقيق أي مصالح جيوسياسية، فشعوب الشرق الأوسط هي التي تملك مستقبلها ومصيرها.
وأكد وزير الخارجية الصيني تشين يوم الثلاثاء مجددا على أن “الصين تحترم تماما دول الشرق الأوسط بصفتها سادة شؤونها، وليس لديها نية لملء ما يسمى بالفراغ ولن تبني دوائر حصرية في المنطقة”.
ولفت تشين إلى أن الصين تدعم دول الشرق الأوسط في التمسك بالاستقلالية الإستراتيجية، وتعارض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط، مضيفا أن الصين ستواصل التمسك بالعدالة ودعم دول الشرق الأوسط في السعي لتسوية سياسية للقضايا الساخنة في المنطقة عبر الحوار والتشاور. كما قال “نحن على استعداد لأن نكون مساهمين في تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وشركاء في التنمية والازدهار، ومعززين للوحدة والاعتماد على الذات”.
وفي هذا السياق، أشار سون ده قانغ، مدير معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان الصينية، إلى أن الصين والولايات المتحدة مختلفتان، فالأخيرة تعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ لها، بينما الصين لا تتنافس أبدا على مناطق نفوذ ولا تزرع وكلاء ولا تملأ ما يسمى بـ”الفراغ”، وبالتالي فلكل من الصين والولايات المتحدة فلسفة مختلفة تجاه الشرق الأوسط.
وبيّن أن الصين تحترم الاستقلالية الإستراتيجية لدول الشرق الأوسط، وتحترم سيادة الدول وسلامة أراضيها، بينما تنظر الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط كفناء خلفي لها كقوة عظمى، لافتا إلى أن الصين تجاوزت منذ فترة طويلة مفهوم الأمن التقليدي هذا.
في الصورة الملتقطة يوم 28 يونيو 2021، المنطقة الصناعية لشركة النفط السعودية العملاقة أرامكو في مدينة الدمام السعودية. (شينخوا)
— مجتمع صيني-عربي ذي مستقبل مشترك في العصر الجديد
في الفترة من 7 إلى 10 ديسمبر من العام الماضي، حضر الرئيس الصيني شي جين بينغ القمة الصينية العربية الأولى وقمة الصين – مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن قيامه بزيارة دولة إلى المملكة العربية السعودية. لقد شكلت القمتان مؤشرا هاما حول الارتقاء بالعلاقات بين الصين والدول العربية من اجتماعات وزارية سابقا إلى قمم متعددة الأطراف على مستوى قادة الدول.
في هذا الصدد، قال وانغ قوانغ دا، أمين مركز الدراسات الصينية العربية للإصلاح والتنمية والأستاذ بجامعة شانغهاي للدراسات الدولية، إن أهم نتيجة للقمة الصينية العربية الأولى هي أن الجانبين الصيني والعربي اتفقا على بذل كل جهد ممكن لبناء مجتمع صيني-عربي ذي مستقبل مشترك في العصر الجديد، وهذا خيار إستراتيجي بين الجانبين في سياق التغيرات الكبيرة الحاصلة ودخول العلاقات الصينية العربية عصرا جديدا من التنمية الشاملة والمعمقة.
وأشار وانغ إلى أنه علاوة على ذلك، سيمضي الجانبان قدما بروح الصداقة الصينية العربية وسيعملان يدا بيد لدفع “الإجراءات المشتركة الثمانية”، على نحو يعكس بشكل كامل تعميق الجانبين لنمط التعاون في الاتجاهات كافة وعلى مستويات عديدة وفي مجالات واسعة. “ومن ثم، فإن إرث الصداقة القائمة منذ آلاف السنين بين الصين والدول العربية سيساهم في الارتقاء بعلاقات الشراكة الإستراتيجية بين الصين والدول العربية في العصر جديد”، مضيفا أن التعاون الصيني العربي واعد ويحمل في طياته الكثير.
قبل بدء المؤتمر الصحفي الذي عُقد يوم الثلاثاء، ذكر تشين أيضا أن العالم يدخل مرحلة تغيير كبيرة لم تحدث منذ قرن من الزمان. وفي هذا الإطار، يرى سون ده قانغ أن هذا يعني أن هيكل القوى العالمية قد تغير كثيرا، “فالصين والدول العربية من البلدان النامية، ونصيب البلدان النامية في الاقتصاد العالمي آخذ في الازدياد، وهذا تغيير مهم للغاية”.
وقال سون إن الدول العربية “تتطلع شرقا” ومبادرة “الحزام والطريق” الصينية تتجه غربا، وهذا يكشف في الواقع عن مساعٍ حثيثة لدى الجانبين للتقارب والتواصل. فخلال العقد الماضي، شهد التعاون الاقتصادي والتجاري الصيني العربي ازديادا مطردا في ظل تغيرات لم يسبق لها مثيل.
وبلغ حجم الاستثمار المباشر للصين في البلدان العربية 23 مليار دولار في عام 2021، بزيادة قدرها 2.6 ضعف مقارنة بما كان عليه قبل 10 سنوات؛ وبلغ حجم التبادل التجاري الصيني العربي 330.3 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل زيادة قدرها 1.5 ضعف مقارنة بما كان عليه قبل 10 سنوات. وفي الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2022، بلغ حجم التبادل التجاري الصيني العربي 319.295 مليار دولار أمريكي، وهو قريب من مستوى عام 2021 وبزيادة قدرها 35.28 في المائة على أساس سنوي.
وسلط سون الضوء على أن “الصين تخطت الاقتصادات الأخرى لتصبح أكبر شريك تجاري للبلدان العربية ومستثمرا رئيسيا فيها، وهذا تغيير لم يحدث من قبل”.
في الصورة الملتقطة يوم 7 ديسمبر 2022، سيدة تزور معرضا للصور يعرض التبادلات الودية والتعاون بين الصين والدول العربية في العاصمة السعودية، الرياض. (شينخوا)
— اتجاهات جديدة في العلاقات الصينية العربية
قال سون إن من “أهم الأمور التي لوحظت في القمة الصينية العربية وقمة الصين – مجلس التعاون الخليجي كانت مشاركة القادة رفيعي المستوى من الجانبين، وهو ما رفع العلاقات إلى مستوى التعاون الشامل، وهو تعاون من أعلى إلى أسفل أعقبه عمل براغماتي، حيث وقع الجانبان العديد من الاتفاقات، تشمل الطاقة الجديدة والبنية التحتية الجديدة والتكنولوجيا الجديدة والصناعات الجديدة، ويمكن القول إن مجالات التعاون البراغماتي بين الجانبين الصيني والعربي برزت في نقاط متعددة، بما فيها 34 اتفاقية تعاون بين الصين والمملكة العربية السعودية، تم البدء في تنفيذها جميعها.
من ناحية أخرى، رأى وانغ أن المهمة الرئيسية للسياسة الخارجية للصين تجاه الدول العربية هذا العام تتمثل في المضي قدما بروح القمة الصينية العربية وقمة الصين – مجلس التعاون الخليجي، مبينا تسارع خطى التواصل والتعاون بين الجانبين الصيني والعربي في شتى المجالات.
وقال إنه في البداية، زادت تقارير وسائل الإعلام العربية عن الصين بشكل كبير من جانب مختلف مراكز الأبحاث، في حين اتجهت دوائر الأعمال الصينية نحو دخول أسواق الدول العربية، وبدأت ليس فقط الشركات الكبيرة المملوكة للدولة، بل أيضا صناديق الأسهم الخاصة في التحرك لإرسال وفود في زيارات إلى الدول العربية بحثا عن فرص للأعمال هناك. كما تستعد شركات كبيرة مملوكة للدولة في شانغهاي للاستثمار وإقامة مصانع في الدول العربية.
كما تتحرك الدول العربية بخطى واسعة تجاه الصين. ففي يوم 16 فبراير، قام الاجتماع الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي بمناقشة ودفع مسألة التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. وفي يوم 2 مارس، وقعت شركة ((أرامكو)) السعودية خطاب نوايا للاستثمار في مشروع مشترك لشركتي ((جيلي)) و((رينو)) للسيارات. وفي نفس اليوم، استضافت إدارة الأعمال التجارية لمنطقة قوانغشي ذاتية الحكم لقومية تشوانغ وغرفة التجارة في دبي مؤتمر التعاون الاقتصادي والتجاري بين قوانغشي ودبي لعام 2023.
كما ذكر وانغ أن مكانة الصين في الدول العربية آخذة في الارتفاع وسياستها الخارجية تحظى بتقدير متزايد من قِبَل شعوب المنطقة. ولفت مقال نشرته صحيفة ((الشرق الأوسط)) إلى أن العرب يقدرون التعاون البراغماتي الذي تجريه الصين كونه يقوم على قدم المساواة ودون شروط سياسية ودون تدخل في الشؤون الداخلية.
ولفت سون على وجه التحديد إلى أن اهتمام الصين بالشؤون الأمنية في الشرق الأوسط قد زاد بشكل كبير منذ قمتي العام الماضي. ففي شهر فبراير المنصرم، أصدرت الصين وثيقة مفاهيمية حول مبادرة الأمن العالمي، والتي تبين أن الصين لا تسعى فقط إلى إجراء تعاون براغماتي مع دول الشرق الأوسط من الناحية الاقتصادية، وإنما تقدم أيضا بعض الأفكار والمقترحات بشأن معالجة الشؤون الأمنية في الشرق الأوسط وتدعو إلى استخدام مفهوم أمني جديد لحل القضايا الأمنية في الشرق الأوسط.
بدوره، أشار وانغ إلى أن الصين تنظر إلى الشرق الأوسط باعتباره قوة مهمة في عالم متعدد الأقطاب، وصار الشرق الأوسط يحظى بمكانة بارزة في السياسة الخارجية للصين. وفي المستقبل، سيستمر محور تركيز سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط منصبا على الاهتمام بقضايا التنمية وتعزيز تنفيذ مبادرة التنمية العالمية ومواصلة السعي لتحقيق التنمية المشتركة في إطار البناء المشترك عالي الجودة للحزام والطريق وتحقيق المنفعة المتبادلة والربح المشترك، والدعوة إلى إنشاء هيكل أمني مشترك وشامل ومستدام في الشرق الأوسط.