الأنباط-الأردنية/
الأكاديمي مروان سوداح
تكتمل هذا العام الذكرى ال(51) لافتتاح المركز الثقافي السوفييتي في عمّان، والذي تم نحره وتصفية دمائه بعملية البيريسترويكا الغورباتشيفية اليلتسينية اللعينة قبّحها الله. يُذكر، أن المركز كان قد أُغلق بقرار روسي رسمي في بداية التسعينات الماضية بعد انحلال الاتحاد السوفييتي، واستبداله بروسيا الاتحادية. خسرنا في الأردن بجريرة إغلاق هذا المركز مَعلمًا ثقافيًا وعلميًا بارزًا، وهيئة إعلامية ناشطة بتميّز في حقول متعددة على الساحة الأردنية، إذ برز المركز واشتهر ليس محليًا فحسب، بل وعربيًا وعالميًا ليكون في المكانة الأولى المرموقة في مجالاته، بفضل جهود جميع العاملين فيه وبالأخص مديره الأول، الأذربيجاني القومية، الصديق المرحوم والشهم عادل قربانوف، الذي أذكره هو وعائلته جيدًا.
ما أزال أستذكر للآن كيف تم افتتاح المركز الثقافي السوفييتي رسميًا بيد رئيس الوزراء الأسبق وصفي التل، في سبتمبر عام 1970. المدراء الأردنيون إلى جانب المدراء السوفييت كانوا يديرون هذا المركز ويتناوبون على تسيير شؤونه سنة بعد أخرى، في مقدمتهم الرفيق الأستاذ والأب والصديق والمُعَلّم الكبير الدكتور وليد مصطفى، وهو يُقيم حاليًا في فلسطين، وأنا على اتصال معه ومع مدراء آخرين منهم، الآساتذة نضال مضية، وعبد الهادي الدهيسات، بالإضافة لأديب النمري الذي لم أعد أعرف عنه شيئًا. لقد أصبح هذا المركز بمدرائه السوفييت والعرب وبموقعه الوازن العالي، موقع جذب كبير وتأثير طاغٍ على الأردنيين من مثقفين ومتعلمين، متخصصين ومؤرخين، طلاب جامعات وعلوم، وشرائح من طبقات متعددة، ورؤساء أحزاب وجمعيات والسيدات المُمّثلات للمجتمع السوفييتي بمختلف قومياتهن ولغاتهن، اللواتي قَدِمْنَ إلى المملكة مع أزواجهن للاستقرار فيها. وليس أخيرًا، خسرنا بإغلاق هذا الصرح الكبير موقع جذب عَمِل على تجذير الصداقة الحقيقية مابين الأردنيين والعرب والاتحاد السوفييتي وجمهورياته بكل قومياتها وأعراقها وأديانها.
في خضم انقلاب البيريسترويكا تلاشت القاعدة السوفييتية للإعلام وبدأت عملية الارتداد الرجعي العنيف إلى الخلف، فَ فَقَدَ الإعلام السوفييتي وجوده. وبالتالي، أَضاعَت المراكز الثقافية وجمعيات الصداقة السوفييتية مع العَالم مكانتها المهيبة وشخصيتها المرموقة، بخاصة بعد استشراء نفوذ عناصر عدوة لروسيا، أولها الصهيونية التي تغلغلت في مفاصل الإعلام الروسي والعالمي بصورة (الدولة داخل الدولة)، وقد أفضى ذلك إلى انفضاض كثيرين من أصدقاء موسكو عنها، لسبب أنهم لم يعودوا يَجدون وسيلة إعلامية اتصالية فاعلة تتجاوب معهم باللغة العربية. أغلقت موسكو قنواتها الإذاعية الباثة بالعربية والتي كانت تبث بنشاط منقطع النظير، إذ كانت قد جَمعت من حولها خلال عشرات السنوات ملايين المُستمعين والمُراسِلين والمؤيدين العرب مُحبِّي روسيا من مختلف الأعمار والمهن والتوجّهات. ومن أبرز هذه الوسائل الإعلامية التي تلاشت واندثرت، (القسم العربي لراديو موسكو)، و (راديو السلام والتقدم) في موسكو أيضًا، وتوقفت إذاعات الجمهوريات السوفييتية الأخرى التي كانت تبث بالعربية من باكو، طشقند ودوشانبى وغيرها، ونأمل أن نرى عودة (راديو باكو) للعمل باللغة العربية، فهو حُلم ملايين العرب.
إلى ذلك، أغلقت أبوابها أيضًا المطبوعات السوفييتية الشهيرة الناشرة بالعربية، ومنها الصحيفة الورقية والأسبوعية العزيزة على قلوبنا (أنباء موسكو)، التي ترأّس هيئة تحريرها في نهايات السبعينات من القرن الماضي، الأُستاذ الأذربيجاني الشهير عادل قربانوف الذي كان أول مدير عام على المركز الثقافي السوفييتي في الأردن، والذي طلب مني بكل لطف ومحبة عندما زرته في مقر عمله بموسكو، أن أواصل نشر مقالاتي وأخباري على صفحاتها، مقابل بدل مادي ممتاز بالروبل، للمساهمة في مساعدتي كطالب صحافة. كما توقفت المجلات الورقية التالية التي صدرت بلغة القرآن، وكنت مُرَاسِلها و/أو أعمل فيها آنذاك: (أذربيجان السوفييتية اليوم) في باكو؛ (المجلة العسكرية السوفييتية) و (المرأة السوفييتية) و (الاتحاد السوفييتي) وكانت موسكو مقرها؛ إضافةً لِ (المدار) في بيروت، و (العصر الجديد) وحضنتها القاهرة.
ومقابل التراجع الإعلامي الروسي السريع والكبير في مجال الصحافة بالعربية وتدريس العربية، شهدنا توسّعاً وازدياداً ملحوظاً في مواقع الإعلام والإعلام الاجتماعي والمهني المعادية للعرب وروسيا وتلك المناهِضة كذلك للرئيس فلاديمير بوتين شخصياً وسياسياً، وهي منابر تكاثرت كالنار في الهشيم، زد عليها العداء المُستمر والصاعد لروسيا والداعي لمقاطعتها سلعياً وثقافياً في مواقع إلكترونية تتبع لِمَا يُسمّى بالمشتركين “العاديين!”، ولمواقع الصحافة الإلكترونية العربية عموماً ذات “الارتباطات المحددة”.
في الواقع الإعلامي المُعاش، لم يَعد عدد كبير من العرب يَعرفون سوى النُزر اليسير عن حقائق روسيا وشعبها. فمكاتب (وكالة أنباء نوفوستي) توقفت عن العمل في الأردن والبلدان العربية، وتم سحب مراسليها الروس إلى لبنان أولاً ثم لموسكو. كذلك توقفت نشراتها الورقية الإخبارية اليومية التي كانت تُعمَّم على الصحف والمؤسسات الأردنية والعربية، والتي سبق وعملتُ أنا شخصيًا فيها ونشطِت معها؛ قبل إيداعي السجن؛ ومع مدرائها ومنهم المستشرق فلاديمير كيدروف، والصحفي فلاديمير باجان، واحتَفظُ بشهادات رسمية منهما تشهد على أنني موظف في (نوفوستي)، وكان ذلك قبل توجهي صوب موسكو سنة 1978، لدراسة الصحافة والإعلام في جامعتها، وفي (جامعة لينينغراد الحكومية) أيضًا، حيث كان الحبيب (فلاديمير بوتين) رئيسي المباشر، ومساعده الشهم المخلص الرفيق (فاتيوغ) سندين مُخلصين لي ويشدّان من أزري في سبيل راحتي وأمني الشخصي، و واصَلتُ علاقاتي مع الجامعة وبعض اساتذتها بعد عودتي من روسيا إلى الأردن، في عام 1985.
حاليًا، وبسبب الانهيار السوفييتي لم نعد نجد في الكثير من العواصم العربية مراسلين لفضائية (روسيا اليوم)، التي تحتاج برأي متابعيها إلى تصحيح حقيقي وفاعل في توجهاتها ونصوص أخبارها، وضرورة توقّفها عن جَلْد الذات الروسية، لأن ذلك يَصبُ في خانة خصوم روسيا، ويمدّهم بمزيد من الذخيرة “الحيّة” في مواجهتنا جميعاً.
.. يتبع ..